سبق أن علِمت أن أبا بكرة -رضي اللَّه عنه- لم ينفرد برواية الحديث. ثم الجواب عن هذه الشبهة أن يُقال: أولًا: لا بُدّ أن يُعلم أن أبا بكرة -رضي اللَّه عنه- صحابي جليل. ثانيًا: الصحابة كلّهم عدول عند أهل السنَّة، عُدُول بتزكية اللَّه لهم وبتزكية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- التي أغْنَتْ عن كل تزكية. ثالثًا: أبو بكرة -رضي اللَّه عنه- لم يفسق بارتكاب كبيرة، وإنما شهِد في قضية، فلما لم تتم الشهادة أقام عمر -رضي اللَّه عنه- الْحَدّ على من شهِدوا، وكان مما قاله عمر -رضي اللَّه عنه-: وقال من تاب قبلت شهادته. وقال لهم: من أكْذَبَ نفسه قَبِلْتُ شهادته فيما يُستَقْبَل، ومن لم يفعل لم أُجِزْ شهادته. فعمر -رضي اللَّه عنه- لم يقُل: لم أقبل روايته. وفرق بين قبول الشهادة وبين قبول الرواية. رابعًا: مما يؤكِّد الفرق بين الرواية والشهادة ما نقله ابن حجر عن المهلّب حينما قال: واستنبط المهلب من هذا أن إكذاب القاذف نفسه ليس شرطًا في قبول توبته؛ لأن أبا بكرة لم يُكذب نفسه، ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعمِلُوا بها. على أن آية القذف في قبول الشهادة. وعلى أن هناك فَرْقًا بين القاذِف لغيره، وبين الشاهد -كما سيأتي-. خامسًا: أبو بكرة -رضي اللَّه عنه- لم يَرَ أنه ارتكب ما يُفسِّق، ولذا لم يَرَ وجوب التوبة عليه، وكان يقول: قد فسَّقوني! وهذا يعني أنه لم يَرَ أنه ارتكب ما يُفسِّق. سادسًا: في الرواية تُقبل رواية المبتدع، إذا لم تكن بدعته مُكفِّرة، وهذا ما يُطلق عليه عند العلماء (الفاسق الْمِلِّي)، الذي فِسقه متعلق بالعقيدة، لا بالعمل. وروى العلماء عن أُناس تكلّموا في القدر، ورووا عن الشيعة، وليس عن الرافضة الذين غَلَوا في دين اللَّه! ورووا عن الخوارج لِصِدقِهم. ورووا عمّن يشرب النبيذ، وعن غيرهم من خالَف أو وقع في بدعة، فإذا كان هؤلاء في نظر أهل العلم قد فسقوا بأفعالِهم هذه، فإنه رووا عنهم لأن هؤلاء لا يرون أنهم فسقوا بذلك، ولو رأوه فسقًا لتركوه! فتأمّل الفرق البيِّن الواضح. وأبو بكرة -رضي اللَّه عنه- مع كونه صحابيًا جاوز القنطرة، إلا أنه يرى بنفسه أنه لم يأتِ بما يُفسِّق، ولو رأى ذلك لَتَاب منه. وهو -حقيقة- لم يأتِ بما يُفسِّق. غاية ما هنالِك أنه أدى شهادة طُلِبت منه، فلم يقذِف ابتداء، كما علِمت. والصحابة قد جاوزوا القنطرة، والطّعن في الصحابة طَعن فيمن صحِبوا. =