وقال الشافعي وأبو ثور: حقوق الناس وحقوق اللَّه سواء في ذلك والحدود وغيرها سواء في ذلك وجائز أن يقضي القاضي في ذلك كله بما علمه. وقال مالك وأصحابه: لا يقضي القاضي في شيء من ذلك كله بما علمه حدًّا كان أو غير حد لا قبل ولايته ولا بعدها ولا يقضي إلا بالبينات والإقرار وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد وهو قول شريح والشعبي وفي قوله -عليه السلام-: "فأقضي له على نحو ما أسمع منه" دليل على إبطال القضاء بالظن والاستحسان وإيجاب القضاء بالظاهر ألا ترى أن رسول اللَّه -صلي اللَّه عليه وسلم- قضى في المتلاعنين بظاهر أمرهما وما ادعاه كل واحد منهما ونفاه فأحلفهما بأيمان اللعان ولم يلتفت إلى غير ذلك بل قال: إن جاءت به على كذا وكذا فهو للزوج وإن جاءت به على نعت كذا وكذا فهو للذي رميت به فجاءت به على النعت المكروه فلم يلتفت رسول اللَّه -صلي اللَّه عليه وسلم- إلى ذلك بل أمضى حكم اللَّه فيهما بعد أن سمع منهما ولم يعرج على الممكن ولا أوجب بالشبهة حكمًا فهذا معنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما أقضي على نحو ما أسمع". وأما قوله -عليه السلام-: "فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" فإنه بيان واضح في أن قضاء القاضي بالظاهر الذي تعبد به لا يحل في الباطن حرامًا قد علمه الذي قضى له به وأن حكمه بالظاهر بينهم لا يحل لهم ما حرم اللَّه عليهم مثال ذلك رجل ادعى على رجل بدعوى وأقام عليه بنية زور كاذبة فقضى القاضي بشهادتهم بظاهر عدالتهم عنده وألزم المدعى عليه ما شهدوا به فإنه لا يحل ذلك للمدعي إذا علم أنه لا شيء له عنده وأن بينته كاذبة إما من جهة تعمد الكذب أو من جهة الغلط. ومما احتج به الشافعي وغيره لقضاء القاضي بعلمه حديث عبادة وأن تقوم بالحق حيث ما كنا لا تخاف في اللَّه لومة لائم وقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وحديث عائشة في قصة هند بنت أبي سفيان قوله: "خذي ما يكفيك وولدك" وكذلك لو ثبت على رجل لرجل حق بإقرار أو بينة فادعى دفعه إليه والبراءة منه وهو صادق في دعواه ولم يكن له بينة وجحده المدعي الدفع إليه وحلف له عليه وقبض منه ذلك الحق مرة أخرى بقضاء قاض فإن ذلك ممن قطع له أيضًا قطعة من النار ولا يحل له قضاء القاضي بالظاهر ما حرم اللَّه عليه في الباطن ومثل هذا كثير قال اللَّه -عز وجل-: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)} وهذه الآية في معنى هذا الحديث سواء. قال معمر عن قتادة في قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} قال: لا تدلي بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك له ظالم فإن قضاءه لا يحل لك شيئًا كان حرامًا عليك. =