الثانية: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} "كتب" معناه فرض وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول وقد قيل: إن "كتب" هنا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء. والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار. وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقًا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، ومنه {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: ٦٤]. وقيل: القص القطع، يقال: قصصت ما بينهما. ومنه أخذ القصاص؛ لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به، يقال: أقص الحاكم فلانًا من فلان وأباءه به فأمثله فامتثل منه، أي اقتص منه. الثالثة: صورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر اللَّه والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام: "إن من أعتى الناس على اللَّه يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحول الجاهلية". قال الشعبي وقتادة وغيرهما: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا نقتل به إلا حرًا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلًا، وإذا قتل لهم وضيع قالوا: لا نقتل به إلا شريفًا، ويقولون: "القتل أوقى للقتل" بالواو والقاف، ويروي "أبقى" بالباء والقاف، ويروى "أنفى" بالنون والفاء، فنهاهم اللَّه عن البغي فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية، وقال {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩]. وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم. الرابعة: لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك؛ لأن اللَّه سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعًا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود. وليس القصاص بلازم إنما اللازم =