للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= عليه فرفع إليه مالك رأسه كالمجيب له، فقال له السائل: يا أبا عبد اللَّه {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)} كيف كان استواؤه؟ قال: فطأطأ مالك رأسه ساعة ثم رفعه، فقال: سألت عن غير مجهول وتكلمت في غير معقول ولا أراك إلا امرأ سوء أخرجوه.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مالك أنه أجاب هذا بأن قال: استواء من غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة وأراك صاحب بدعة، وأمر بإخراجه، وهذه الرواية تبين معنى قوله: سألت عن غير مجهول، وتكلمت في غير معقول؛ لأن التكييف هو الذي لا يعقل؛ إذ لا يصح في صفات الباري -عز وجل-؛ لما يوجبه من التشبيه بخلقه تعالى عن ذلك، وأما الاستواء فهو معلوم غير مجهول، كما قال؛ لأن اللَّه وصف به نفسه فقال في محكم كتابه {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (٦)} وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} فوجب الإيمان بذلك وأن يوصف بما وصف به نفسه من ذلك ويعتقد أنها صفة من صفات ذاته وهي العلو، لأن معنى قوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} على العرش علا، كما يقال استوى فلان على العرش علا عليه واستوت الشمس في كبد السماء علت، ولما كان العرش أشرف المخلوقات وأعلاها وأرفعها مرتبة ومكانًا أعلم اللَّه تعالى عباده بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)}، أي: علا فإنه أعلى منه، وإذا كان أعلى منه فهو أعلى من كل شيء، إذ كل شيء من المخلوقات دون العرش في الشرف والعلو والرفعة فالمعنى في وصف اللَّه -عز وجل- نفسه بأنه استوى على العرش أنه أعلى منه ومن كل مخلوق، لا أنه استوى عليه بمعنى الجلوس عليه والتحيز فيه والممارسة لأنه مستحيل في صفات اللَّه تعالى، لأنه من التكييف الذي هو من صفات المخلوق ولذلك قال فيه مالك في الرواية: إنه غير معقول، ولا أنه استوى عليه بمعنى أنه إستولى عليه لوجهين، أحدهما أن الاستيلاء إنما هو بعد المدافعة والمقالبة، والرب تبارك وتعالى منزه عن ذلك والوجه الثاني: أن الاستيلاء هو القهر والقدرة، واللَّه تعالى لم يزل قادرًا قاهرًا عزيزًا مقتدرًا، قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يقتضي استفتاح هذا الوصف بد أن لم يكن ولا يمتنع أن يكون استواء اللَّه على عرشه من صفات ذاته وإن لم يصح وصفه بها إلا بعد وجود العرش كما لا يوصف بأنه غير لما غايره إلا بعد وجود سواه.
وقد قيل: إن استواء اللَّه تعالى على عرشه من صفات فعله، بمعنى أنه فعل في العرش فعلًا سمي نفسه به مستويًا على العرش، أو بمعنى أنه قصد إلى إيجاده أو إحداثه، لأن الاستواء يكون بمعنى الإيجاد والإحداث كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ=

<<  <  ج: ص:  >  >>