فإن قلتَ: ما حقيقةُ المضمضة والاستنشاق؟ قلتُ: المضمضة لغة: تحريكُ الماء في الفم، إلا أن الفقهاء على أنه يكفي مجرّد إدخال الماء في الفم، وأما الاستنشاق فهو: إدخال الماء في الأنف، من: نشق الدابة، إذا كفّ زمامها، وهما واجبان عند الإمام أحمد وابن راهويه تمسكًا بظاهر الأحاديث ولم يحكِ أحدٌ وضوءَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا مقرونًا بهما، وذَهَبَ الشافعي إلى سُنيتهما لعدم ذكرهما في الآية، والفعل لا يدل على الوجوب، وذهب أبو حنيفة إلى وجوبهما في الغسل لقراءة:{فَاطَّهَّرُوا}[المائدة: ٦]، بالتشديد. والفم والأنف ظاهران من وجهٍ، باطنان من وجهٍ، فأَخَذَ بالاحتياط، وذَهَب إلى وجوب الاستنشاق دون المضمضة أبو ثور، وأهل الظاهر، لأن الأنف محلّ الأوساخ ونبات الشعر. قال النووي: في كيفية المضمضة والاستنشاق خمسة أوجه:
يجمع بينهما بغرفة يتمضمض منها ثلاثًا ويستنشق ثلاثًا.
والثاني: أن يدخل الماء في فمه مرة، ثم أنفه مرة، ثم يعود إلى الفم، ثم إلى الأنف.
كل ذلك مرة بعد أخرى إلى الثلاث في كل واحد.
والثالث: ثلاث غَرَفات. كل واحدة يقسمها إلى الفم والأنف.
والرابع: بغرفتين، كل واحدة لواحد لكنها يدخلها في ثلاث مرات.
والخامس: ست غرفات ثلاث لهذا، وثلاث لذاك. والأفضل منها الرابع.
وإنما اختصر في الحديث هنا على غرفة، لأنه بصدد بيان فرض الوضوء، ولهذا اكتفى في غسل الأعضاء مرة مرة.
(ثم أخذ غرفة من ماء، فَرَشَّ على رجله اليمنى) أي: صَبَّه قليلًا قليلًا. إما لأنه كذلك رأى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو لقلة الماء. والظاهر هو الأول لقوله: هكذا رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ. ومن قال: لا فَرقَ بين الغسل والرش، فقد خالف اللغة والفقه، أما اللغة فلقول الجوهري: يقال: رشت السماء والرش: المطرُ القليل. وقال ابنُ الأثير في "النهاية": الرش: النَّضح. وأما الفقه فلقول الشافعي: يُغْسَل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام قبل أن يطعم. واستدل ابنُ بطال بالحديث على أن الماء المستعمل يطهر، لأنه بأول ملاقاة العضو يصير مستعملًا، فلو لم يكن طهورًا لما صحّ غسل باقي العضو. وفي استدلاله نظرٌ، لأن العضو الواحد له حكم واحد، وما دام الماء جاريًا عليه لا يوصف بالاستعمال.