(فقالت الجنة: يا رب ما لها لا يدخلها إلا أخساء الناس وسَقَطُهم) في الضمير التفات، والأصل فإني لا يدخلني، والسَقَط بفتح السيق والقاف: من كل شيء رديئه. قال الطيبي: المحاجة المغالبة في الخصام، وقال غيره: حاصل خصامهما المغالبة والافتخار من كل واحدة بما خصت به، وهذا سهو منهم فإن الخصام هنا مجاز عن الشكاية ألا ترى إلى قول كل واحدة: ما لها لا يدخل إلا كذا قول الجنة: من الضعفاء والسقط، وقول النار: ما لي لا يدخلني إلا المتكبرون والجبارون، وهل يعقل أن تفتخر بمثل هذه الأشياء، وهل يقال في معرض الافتخار: ما لي، ألا ترى قول سليمان:{مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ}[النمل: ٢٠] كأنه يرى نقصًا في ملكه.
(فقال الله للجنة: أنت رحمتي، وللنار: أنت عذابي) أي أنتما تحت مشيئتي لا إرادة لكما (أما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدًا) ينقصان أجره (وإنه ينشئ للنار من يشاء) اضطرب العلماء في توجيه هذا الكلام اضطرابًا شديدًا، ونحن ننقل ما قالوه، ونشير إلى ما فيه، ثم نذكر ما وفقنا له من الحق بتوفيق علام الغيوب، قال بعضهم: الذي نعرفه أن الله ينشئ للجنة خلقًا يسكنها، وأما الإنشاء للنار فلا علم لنا به، وقيل هذا مطلوب فإنه وصف أهل الجنة، وقيل: غلطٌ من الراوي، وقال القاضي: هؤلاء هم القَدَم الذي في الحديث: "يضع الجبار فيهما قدمه". وهو باطل من وجهين:
الأول: أن تفسير القدم بهذا مخالف للإجماع، فإن الله لا يعذب أحدًا من غير ذنب، وإن كان جائزًا عقلًا. قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء: ١٥]. وبه يسقط قول من قال: الرواية ثابتة، ولله أن يعذب من يشاء.
الثاني: أنه لو سلم أن المعنى هو ذاك فلا يصح حمل هذا عليه، فإن القدم مذكور بعده. وقيل: لا يلزم من دخولهم النار عذابهم، وهذا أيضًا ليس بشيء لقوله تعالى:{إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}[آل عمران: ١٩٢] , ولقوله:{لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ}[البقرة: ١٦٢] وقال الشيخ البلقيني: حمله على حجارة تلقى في النار أقرب. وهذا أيضًا من ذلك النمط؛ لأن مع من الموصولة ضمير العقلاء في يلقون يدفعه، هذا الذى نقلنا مبلغ علمهم.
ونحن نقول: هؤلاء الذين أشار إليهم بقوله: "ينشئ للنار من يشاء" هم الذين ماتوا