فإن قلتَ: فذلك يكون باللسان، فأي فائدة لوصفه بقوله: بين أيديكم وأرجلكم؟ قلتُ: اللسان ترجمان القلب. أشار إلى أنكم تحيرونه بقلوبكم التي بين أيديكم وأرجلكم. وقيل: إنما ذكَرَ الأيدي والأرجُلَ لأن أكثرَ الأعمال تُزاوَلُ بهما. وليس بشيءٍ؛ لأن ذلك إنما يقال في أمورٍ يكون لليد والرجل تأثيرٌ في أكثرها كقوله تعالى:{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}[آل عمران: ١٨٢]{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}[الشورى: ٣٠] إذ ليس العقابُ على جناية اليد وحدها. وكذا ما يقال معناه: لا تَفْتَروا على من بين يديكم حاضرًا لعدم دلالة الكلام عليه مع إخلاله بغرض الشارع، إذ ليس هذا الحكم مخصوصًا بالحاضر، بل الافتراء على الغائب أشدّ جُرْمًا.
فإن قلتَ: الافتراءُ هو عين البهتان، فما فائدة الجمع بينهما؟ قلتُ: الافتراء من الفَرْي وهو القطع، أشار به إلى أنهم يقطعون من عند أنفسهم.
(ولا تعصوا في معروف) أي: فيما عرف من الشرع سواء كان مأمورًا به أو منهيًا عنه. أجْمَلَ في القول بعدما فَضَل بعضَ أمهات الخبائث التي كانت العربُ مَوسُومين بها، ولذلك خَصَّ القَتْلَ بالأولاد، لأنه كان دأبَهم خشيةَ الإملاق (ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله) أي: جزاؤه. وقد فَسَّره بقوله:(إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه) فيه دليلٌ لأهل الحق في أن أصحاب الكبائر في مشيئة الله تعالى يجوزُ العفو عنهم بل هو الراجحُ، ولذلك قدِّم العفوَ على العقاب.
فإن قلتَ: ذلك إشارة إلى المذكور قبله، وفيه الشرك؟ قلتُ: العفوُ عن الشرك أخرجه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}[النساء: ٤٨] وما يقال: إن المراد بالشرك في الحديث: الشرك الخفي وهو الرياء فلا يُعوَّل عليه.
فإن قلتَ: لا تَعْصُوا في معروف دَخَل فيه أكلُ مال الغير وقتله ظلمًا، وقد أجمعُوا على أن ظلم العباد لا بُدّ من أدائه؟ قلتُ: معنى ذلك الإجماع بأن حق العباد لا بُدّ له من الأداء، ولا يلزم أن يكون ذلك بعقاب الظالم، بل إما أن يُؤخذ من حسناته، وإما أن يُرضي اللهُ خَصْمَه من خزائن فضله. هكذا يجب أن يُفهم هذا المقام، فإنه صريحُ معنى الحديث،