القرون له أنصارًا وأعوانًا، ولخرائد أبكاره أخدانًا وخِلَّانًا، حَمَوا حِمَى حريمه عن أبصار الخائنين، وجَلَوا عن مرآة جماله صَدَى أنفاس المبطلين، حتى تمشّى في حُلَلَهِ وتفجّر، وتضوَّع الكونُ من نشره وتعطّر.
واقتفى أثرَهم قدوتُنا من المجتهدين، وثقاتُنا من صفو شريعة سيد المرسلين، تعبَّدوا بروايته، وتقرَّبوا إلى الله بدرايته، يستنزلون به البركات، ويستترون بستره عن الآفات، يَعُدُّونه أفضلَ الطاعات والقُرَب، وأوضحَ الوشائج والنسب، يجتمعُ في مجلسٍ من مجالسه أُمَمٌ كثيرون؛ مئة ألف أو يزيدون، ثم انهدمتْ أعالي ذلك البنيان، وكبُر من أوج ذلك الكمال إلى حضيض النقصان، إلى أن لم يبقَ له رسمٌ ولا أثر، بل لا يُسمع له باسم ولا خبر، فقل: إنا بذلك لمحزونون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم إني مذ نشأتُ يافعًا، كنتُ لآياته تاليًا وسامعًا، طُفْتُ في طلبه أعاظمَ البلاد، وفُزْتُ من حملته بنقية الأطواد، المشار إليهم بالبنان، المذكورين في كل قُطر بكل لسان، إليهم تُضْرَبُ أكباد الإبل من كل فجٍّ عميق، وتقطع الفيافي من كل مرمى سحيق، سُقيت من ذلك المنهلِ العذب طافحة، فاستوى عندي الخاتمة والفاتحة، ولم يزل يجول في خلدي الجَوَلان في حَلْبة رهانهم، واختيار جواد الفكر في ميدانهم، لعل أن يُكتَب اسمي في ديوانهم، وإن لم أكن واحدًا منهم؛ فإن مولى القوم منهم.
إلا أن هذا الخوف والزمان الحَرون، كما هو دأبُهُ مع أبناء الفضائل من الأواخر والأوائل كان جامحًا لي في الآفاق والأقطار، نازحًا بي في الأرجاء والأمصار، كأنما أنا من حِلٍّ ومرتحلٍ مُوَكّل بفضاء الأرض أَذْرَعُه.
وكنتُ في تلك الرحلات وبين هاتيك النَّقلات، أدفعُ الهمومَ، وأصرف الغموم بصرف الفكر إلى الغوص بفرائد كلام الله المجيد، النازل إلى خير الخلق واسطةِ العِقْد الفريد، ولمّا وفّق الله لإكمال ذلك، واقتبس بقدر الفكر ما هنالك، وجُليت تلك الخرائد على منصات الظهور، وأفلت حياء منها الكواكب والبدور، وكتب بالتبر في الأوراق، وأضاءت بنورها الأقطار والآفاق، كيف لا وهو "غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني" والاسمُ عين المسمى، والألقاب تنزل من السماء، فانتهزتُ الفرصة، وانحدر ما كنت شَرِقْتُ به من غَصَّة، فقلت بنقد العمر: لأي خريدة أشمخ، ولأي طريدة أسعى ولستُ من تداعي الأَجَل في أمان، أسمَعُ كلَّ يوم: مات فلان ابنُ فلان من الإخوان، واندرج أجلاء الأخلّاء والأقران، فأُلْهِمْتُ أن الله يُحب عوالي الهمم، ويكره سَفْسَاف الشِّيم، عليك بسيد الكتب بعد كتاب الله، وإذا عزمتَ فتوكل على الله، وهو:(الجامع الصحيح) للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري تغمّده الله بالرحمة والرضوان، وأسكنه أعلى الفردوس في