الجنان؛ إذ هو الذي ملأ الخافقين، ولم يخلُ عنه مكانٌ بين المَشْرقين.
وقد شرحه أولو الفضائل من الأواخر والأوائل، وكنتُ إذا نظرتُ في تلك الشروح اعتراني القُرُوح والجروح؛ وذلك أن منها ما يطنب في التواريخ والأسماء، ولعمري ذلك قليلُ الجدوى؛ إذ موضوعُ ذلك علمٌ آخر، ومنها ما يحومُ حول المرام إلا أن مؤلفه لم يُحِطْ بطرق الأحاديث وأطراف الكلام، فيشرح السابق بما يناقض اللاحق، فعلى أي طائل يحصل من ذلك الطالب؟ أو في أي طريق يأخذ السالك الذاهب؟ بل لا يناله إلا الكَلَال؛ إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.
ونحن نشرحه إن شاء الله بتوفيقه، مبرزين الأسرار من كلام أفصح البشر، البالغِ كُنْهَ البلاغة من أهل الوَبَر والمَدَر، نُميط القِشْر عن اللباب، ونُميز الخطأ عن الصواب، ونشير إلى ما وقع في الشروح من الزَّلَل، وما وقع من الأقلام من الخطأ والخَطَل، نُشَيِّد أركان الحق الأبلج، ونهدم بنيان الباطل اللَّجْلَج، نُؤيّد ما احتمله لفظُ الكتاب بما ثبت في الخارج من أحاديث الباب، بعد النظر في تفاوت الروايات، وما ثَبت من زيادة الثقات في غُرَرِ ألفاظٍ سلاستُها تفوقُ سُلَافَةَ الراح، ودُرَرِ مَعَانٍ مُبْذَلٍ لها الأرواح، بحيثُ تظهر الشمس لذي العينين، ولا يبقى في الكلام مجالُ القولين، ونأخذ في الحذ الأوسط والاقتصاد، لا تفريط ولا إفراط، نذكُرُ وجوه اللغة على أحسن الوجوه، فإنها قوالبُ المعاني، ونضبط أسماء الرواة في موضع الالتباس، ونشير إلى نُكَتٍ من غرائب أخبارهم على وجه الاختصار؛ لأنه ليس من أغراض شرح الكتاب، ولعلي آنسُ من جانب الطور نارًا، أن يَذْكُرني بصالح دعائه، ولا يَظُنَّ بنا أخو الجهالة أنّا في الردّ راكبين مطية الهوى في شرح كلامِ مَن لا ينطق عن الهوى، كلا، وكيف يُعقل ذلك ونحن نرجو شفاعته؟ وبما نعاينه التقرّب إليه وطاعته؟ بل نلاحظ في كل مقامٍ ما هو غرضُه من الخِطاب، ولا نَخُطُّ إلا ما نعتقدُ أنه عين الصواب، واللهُ يعلم السرائرَ والمُطّلِعُ على ما في الصدور من الضمائر، وسميته بـ "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري". وقبل الشروع في المقاصد أُشرِّف صَدْرَه بشريف نسب سيد الرسل:
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وكم أبٍ قد عَلَا بابنٍ له شَرَفًا ... كما عَلَتْ برسول الله عدنانُ