وذلك بأن يجعل العمل مجازًا عن أثره الشامل للنوعين باعتبار كونهما داخلين في المعنى المجازي، فقد ظهر أن النيةَ المذكورة النيةُ الشرعيةُ، وأنها عزيمةُ القلب كما نقلناهُ عن أهل اللغة، وأن الأعمالَ شاملةٌ لعمل القلب، فسقط ما قيل: إن النية في الحديث هي اللغويةُ.
كيف لا والأفعال الاختيارية لا تخلو عن النية اللغوية، وما قيل: إن أعمال القلب لا تحتاج إلى النية، فلا يلتفت إليه، وهل يُعقل عملٌ تتقربُ به إلى الله بدون النية؟
والعجبُ من هذا القائل أنه ذكر أن الترك يحتاج إلى النية إذا أريدَ به التقرب، وهل التركُ إلا فعلُ القلب وهو كفّ النفس، قال: والتوحيد لا يحتاج إلى النية؛ لأنه فعل القلب، وقد بان لك فسادُهُ، كيف وأعمالُ القلب أشرفُ؟ وسيأتي في كتاب "الإيمان": "من أحب لله وأبغض فقد استكملَ الإيمان"، وأيّ فائدة في القيد بقوله: لله، سوى النية!؟
فإن قلتَ: إذا كانت النيةُ الشرعيةُ فكيف يصحّ قوله: "ومن كانت هجرتُه إلى دنيا"؟ قلتُ: هذا مذكور استطرادًا؛ لأن الأشياء تظهرُ بأضدادها، وكان ذلك أيضًا سببَ ورود الحديث كما سنذكره.
قال النووي: وأما إزالة النجاسة فلا تفتقرُ إلى النية؛ لأنها من باب التروك وقد أوجبها بعضُهم وهو باطل. ورَدّ عليه بعضُ الشارحين بأنه ليس بباطل بل هو الحق؛ لأن الترك كفُّ النفس، فإذا أريدَ به الثوابُ فلا بُدّ من النية، وقد أخطأ في الردّ، وذلك أن كلام النووي إنما هو في حصول إزالة النجاسة بدون النية، ولا تجبُ فيها النيةُ إجماعًا، ولا يُنكر أن من كفُّ النفسَ عن الزنا وسائر المحرمات يثاب عليها إذا قَصَد التقرُّب إلى الله، وتَرَكَها خوفًا منه كما صرّح به صريحُ الحديث:"إنما تركها من جزَائي" أي: لأجلي.
فإن قلت: إذا خُصَّت النيةُ بالعبادات، فما معنى النية في كنايات الطلاق؟ قلتُ: النيةُ لغويةٌ هناك، وهو القصدُ إلى أحد المعنيين.
(وإنما لكل امرئٍ ما نوى): الحصر في الأعمال بالنيات حصرُ المسند إليه في المسند، كما لخّصناه، وهذا حصرُ المسند في المسند إليه. ومعناه: لا يحصُلُ لامرئٍ إلا مَنْوِيُّهُ، فلو أراد أن يصلي صلاة العصر ونوى الظهرَ لا يحصُل له العصرُ، وإن صَدَقَ على عمله أنه مقرونٌ بالنية، فقد بان أن الحصر الأول لا يغني عن الثاني.