فإن قلتَ: أشرطٌ أم ركنٌ؟ قلتُ: قال بكلِّ طائفةٌ، والظاهرُ أنها ركنٌ في الصلاة، لأن أولها شرطٌ في غيرها، وهذه القضيةُ على اصطلاح أهل المنطق تُسمى: قضية منحرفة؛ لأن لفظ السور وهو كلٌ دَخَل على المحمول.
(فمن كانت هجرتُه إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأةٍ ينكحها فهجرتُهُ إلى ما هاجر إليه) الدنيا فعلٌ من: الدُّنُوّ تأنيث أدنى فكان القياس أن تكون باللام، وإنما جُرّدت عنه لأنها خرجتْ عن الوصفية إلى الاسمية، لأنها عَلَمُ هذه الدار، كما أن الآخرة علمٌ لتلك الدار. والأظهرُ أن المراد: شيءٌ من متاع الدنيا، ولذلك أردفَهُ بذكر المرأة التي هي أحدُ أشياء هذه الدار.
اتفق أهلُ الحديث على أن سببَ ورود الحديث أن امرأةً تُسمى أمَّ قيس. قال ابن دِحْية: واسمُها قيلة الهُذَلية، من قبيلة عبد الله بن مسعود، هاجرتْ إلى المدينة، فهاجر لأجلها رجلٌ، ولا يُعرف اسمُه، وإنما اشتهر بين الناس: بمهاجر أمّ قيس.
فإن قلتَ: ما معنى قوله: "فهجرتُه إلى ما هاجر إليه"؟ قلتُ: معناه أن هجرته تلك الخسيسةَ التي لا يمكن ذكرها لدناءتها، كما في عَكْسِها (فهجرتُه إلى الله ورسوله) أي: تلك الهجرة التي لا يمكن شرحُ فضلها، وزال بهذا تَوَهُّم اتحاد الشرط والجزاء، ومن قدَّر الجزاء بقوله: فهجرتُهُ غيرُ مقبولة، أو غير صحيحة. فقد أنزل الكلامَ من أوج البلاغة وفسيحه.
فإن قلتَ: وَضَع الباب في بيان بدء الوحي، وذكر حديث:"إنما الأعمال بالنيات" ولا تعلُق له بذلك؟ قلتُ: أشار أمام المقصود إلى أن نيته في تأليف كتابه خالصة لوجه الله. قال الخطابي: كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديم هذا الحديث أمامَ كل شيء يُبدأ به من أمور الدين.
فإن قلتَ: قد رَوَى البخاري هذا الحديثَ في سبعة مواضعَ من كتابه، وهذا أخصرُ طُرقه، فلِمَ خَصَّه بالذكر هنا؟ قلتُ: لأن غرضَهُ -كما ذكرنا- الإشارةُ إلى إخلاصه في هذا التأليف، وهو كافٍ في تلك الإشارة، فلا حاجة إلى التطويل. وقال بعضُهم: إنما خَصَّه بالذكر لروايته عن الإمام الكبير وهو الحميدي، وفيه بُعْدٌ لا يخفى.
قال المنذري: زعم قومٌ أن هذا الحديث متواترٌ، وهو غلطٌ؛ لأنه من عُمر إلى يحيى بن سعيد الأنصاري روايةُ واحد، ومن يحيى رواه جمٌّ غفيرٌ، قال: فهو غريبٌ في أوله، مشهورٌ في آخره؟