للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الأْحَادِيثُ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرٌ لَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، وَنَذْرُ الْمَشْيِ أَوِ الْوُقُوفِ أَوْ تَرْكِ الاِسْتِظْلَال أَوِ الْكَلَامِ لَيْسَ نَذْرًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُهُ سُبْحَانَهُ، وَمِثْل هَذَا النَّذْرِ لَا يَنْعَقِدُ، وَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُ هَذِهِ الأْمُورِ بِالنَّذْرِ، وَلِهَذَا أَمَرَ مَنْ نَذَرَ الْقِيَامَ بِالْقُعُودِ، وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ بِالرُّكُوبِ، وَمَنْ نَذَرَ تَرْكَ الاِسْتِظْلَال بِأَنْ يَسْتَظِل، وَمَنْ تَرَكَ الْكَلَامَ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ، وَهَذَا مِنْهُ -صلى الله عليه وسلم- يَدُل عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ النَّذْرِ بِذَلِكَ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- أَمَرَ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ سَاكِتَةً بِأَنْ تَتَكَلَّمَ).

وَقَالُوا: إِنَّ الْمُبَاحَ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ قُرْبَةٌ لاِسْتِوَاءِ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ.

الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مُبَاحًا فَنَذْرُهُ مُنْعَقِدٌ وَصَحِيحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، بَل يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.

وَاسْتَدَل هَؤُلَاءِ عَلَى ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ:

مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ قَال (خَرَجَ رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنْهَا جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ. فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ صَالِحًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى. فَقَال لَهَا رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلاَّ فَلَا، فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ).

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ قَدِ الْتَزَمَتْ بِمُقْتَضَى هَذَا النَّذْرِ أَنْ تَضْرِبَ بِالدُّفِّ، وَأَنْ تُغَنِّيَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِنْ رَدَّهُ اللَّهُ سَالِمًا مِنَ الْغَزْوِ، وَالضَّرْبُ بِالدُّفِّ وَالْغِنَاءُ عِنْدَ قُدُومِ الْغَائِبِ أَبَاحَهُ الْفُقَهَاءُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا الْتَزَمَتْهُ بِالنَّذْرِ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ نَذْرَ الْمُبَاحِ مُنْعَقِدٌ وَصَحِيحٌ، وَأَنَّ لِلنَّاذِرِ أَنْ يَفِيَ بِهِ إِنْ شَاءَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>