للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما المسألة الثانية فهو الحكم بين أهل الذمة، فقال الموفق (١): وجملة ذلك أنه إذا تحاكم إلينا أهل الذمة، أو استعدى بعضهم على بعض، فالحاكم مخيَّر بين إحضارهم والحكم بينهم وبين تركهم، سواء كانوا من أهل دين واحدٍ أو من أهل أديان، هذا المنصوص عن أحمد، وهو قول النخعي وأحد قولي الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى أنه يجب الحكم بينهم، وهذا القول الثاني للشافعي واختيار المزني؛ لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: ٤٩]، ولنا قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية [المائدة: ٤٢]، إلى آخر ما ذكر من الكلام على الدلائل، ولم يذكر مذهب مالك والحنفية.

وقال ابن رُشد في "البداية" (٢): وأما الحكم على الذمي فإن في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقضي بينهم إذا ترافعوا إليه بحكم المسلمين، وهو مذهب أبي حنيفة، والثاني: أنه مخيَّر، وبه قال مالك، وعن الشافعي القولان، والثالث: أنه واجب على الإمام أن يحكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليه. . .، إلى آخر ما ذكر في الدلائل، وما ذكره ابن رُشد من مذهب الحنفية هو موافق لما ذكره الجصاص في "أحكام القرآن" (٣) إذ قال بحثًا على المسألة: فثبت نسخ التخيير بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقال أيضًا: فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات والحدود أن أهل الذمة والمسلمون فيها سواء، إلا أنهم لا يرجمون لأنه غير محصنين، وقال مالك: الحاكم مخيَّر إذا اختصموا إليه بين أن يحكم بينهم بحكم الإسلام أو يعرض عنهم، ثم قال: والذي ثبت نسخه من ذلك هو التخيير، فأما شرط المجيء منهم في قوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فلم تقم الدلالة على نسخه، فينبغي أن يكون حكم الشرط باقيًا والتخيير منسوخًا، انتهى ملتقطًا.


(١) "المغني" (١٢/ ٣٨١، ٣٨٢).
(٢) "بداية المجتهد" (٢/ ٤٧٢).
(٣) "أحكام القرآن" (٢/ ٤٣٥ - ٤٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>