للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صحيح، بل الرؤية منه سبحانه محققة قطعيَّة، إلا أن يقال: المقصود أنه تعالى وإن كان رائيًا حاله إلا أن الواجب على العابد مراعاة رؤيته، والمراعاة غير محققة قطعًا، ومع ذلك ففيه بُعد كما لا يخفى، فقوله هذا ليس دليلًا إلا على القول الأول، يعني: أن المرء إذا استبعد رؤيته الرب تبارك وتعالى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اعبد الله كأنك تراه؛ لأنك إن لم تكن تراه فإنه يراك، فكيف تغفل [عنه]؟ وكيف تصلي وقلبك في مكان وجسمك في مكان؟ وكيف تسبِّح الله بلسانك وقلبك مشغول بفلان وفلان؟ انتهى.

وذكر القسطلاني ههنا كلامًا دقيقًا مفيدًا فقال (١): هذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، إذ هو شامل لمقام المشاهدة ومقام المراقبة، ويتضح ذلك بأن تعرف أن للعبد في عبادته ثلاث مقامات:

الأول: أن يفعلها على الوجه الذي تسقط معه وظيفة التكليف باستيفاء الشرائط والأركان.

الثاني: أن يفعلها كذلك وقد استغرق في بحار المكاشفة حتى كأنه يرى الله تعالى، وهذا مقامه - صلى الله عليه وسلم - كما قال: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" (٢)، لحصول الاستلذاذ بالطاعة والراحة بالعبادة، وانسداد مسالك الالتفات إلى الغير باستيلاء أنوار الكشف عليه، وهو ثمرة امتلاء زوايا القلب من المحبوب واشتغال السر به، ونتيجة نسيان الأحوال من المعلوم واضمحلال الرسوم.

الثالث: أن يفعلها وقد غلب عليه أن الله تعالى يشاهده، وهذا هو مقام المراقبة، وقوله: "فإن لم تكن تراه" نزول عن مقام المكاشفة إلى مقام المراقبة، أي: إن لم تعبده وأنت من أهل الرؤية المعنوية فاعبده وأنت بحيث إنه يراك، وكل من المقامات الثلاث إحسان، إلا أن الإحسان الذي هو شرط في صحة العبادة إنما هو الأول؛ لأن الإحسان بالآخرين من صفة


(١) "إرشاد الساري" (١/ ٢٤١).
(٢) "سنن النسائي" (ح: ٣٩٥٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>