للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مكة، وفي هذا الحديث دلالة على أن البيعة سُنَّة في الدين، واستفاض عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الناس كانوا يبايعونه: تارةً على الهجرة والجهاد، وتارةً على إقامة أركان الإسلام، وتارةً على الثبات والقرار في معارك الكفار، وتارةً على هجر الفواحش والمنكرات كما في حديث الباب، وتارةً على التمسُّك بالسنَّة والاجتناب عن البدعة والحرص على الطاعات، كما بايع نسوة من الأنصار على أن لا يخنّ، وبايع ناسًا من فقراء المهاجرين على أن لا يسألوا الناس شيئًا، فكان أحدهم يسقط سوطه فينزل عن فرسه فيأخذه ولا يسأل أحدًا، رواه ابن ماجه (١)، وقد نطق به الكتاب العزيز كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: ١٠]، وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} الآية [الممتحنة: ١٢].

ومما لا شك فيه ولا شبهة أنه إذا ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِعلٌ على سبيل العبادة والاهتمام بشأنه، فإنه لا ينزل عن كونه سُنَّةً في الدين، بقي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان خليفة الله في أرضه، عالمًا بما أنزله الله تعالى من القرآن والحكمة، معلّمًا للكتاب والسُّنَّة، مزكِّيًا للأمة، فما فَعَلَه على جهة الخلافة كان سُنَّةً للخلفاء، وما فعله على جهة كونه معلّمًا للكتاب والحكمة ومزكِّيًا للأمة كان سُنَّةً للعلماء الراسخين.

وهذا "صحيح البخاري" شاهد على أنه - صلى الله عليه وسلم - اشترط على جرير عند مبايعته "والنصح لكل مسلم" (٢)، وأنه بايع قومًا من الأنصار فاشترط أن لا يخافوا في الله لومة لائم ويقولوا بالحق حيث كانوا، فكان أحدهم يجاهر الأمراء والملوك بالرد والإنكار إلى غير ذلك، وكل ذلك من باب التزكية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


(١) "سنن ابن ماجه" (ح: ١٨٣٧، ٢٨٦٧)، وأخرجه أيضًا: مسلم (ح: ١٠٤٣).
(٢) أخرجه البخاري (ح: ٥٢٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>