قريحته، فيفلت زمام التأليف، ويرسل النفس على سجِيَّتها، ويستخرج من حديث واحد نتائج وفوائد لا تدور بِخَلَدِ (١) كثير من الأذكياء، وما ذلك إلا لحدَّة ذهنه، وإفراط حبِّه، ولم يزل الحب مُلْهِمًا للبدائع، مُلهبًا للقرائح، والمحبُّ يقع على ما لا يقع عليه المتأمل، المرهق لجسمه، المُتعِب لعقله.
* وسرٌّ آخر للغموض في تراجم الأبواب: أن المؤلفَ الإمام غير خاضع للأساليب التأليفية، والقوانين الوضعية، التي جرى عليها المؤلفون في فنِّ الحديث في عصره وبعد عصره، بل هو واضع طريقة خاصة في التأليف، وإمام مذهب خاص، وهو لم يقتصر على ما يتبادر إليه الذهن من الأحكام الفقهية المستخرجة من الأحاديث، شأن أقرانه ومن سبقه من المؤلفين في علم الحديث والفقه، بل يستخرج من الأحاديث فوائد علمية وعملية لا تدخل تحت باب من أبواب الفقه المعروفة.
وقد أحسن الإشارة إلى ذلك أكبر شُرَّاح كتابه، وأعرفهم بمراده، العلامة الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة كتابه الفريد "فتح الباري" حيث قال: "ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحِكَمية، فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة، فرَّقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام، فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة.
قال الشيخ محيي الدين - نفع الله به -: ليس مقصود البخاري ألاقتصار على الأحاديث فقط، بل مراده الاستنباط منها، والاستدلال لأبواب أرادها، ولهذا المعنى أخلى كثيرًا من الأبواب عن إسناد الحديث، واقتصر فيه على قوله: "فيه فلان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -"، أو نحو ذلك، وقد يذكر المتن بغير إسناد، وقد يورده معلَّقًا.
وإنما يفعل هذا؛ لأنه أراد الاحتجاج للمسألة التي ترجم لها، وأشار