للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسبب آخر لهذا الغموض والتعقد، وعجز العلماء والشرَّاح عن حلَّه، ومعاناتهم في ذلك الشدة والمشقة، حتى التجأ كثير منهم إلى تأويلات وتكلُّفات لا يُسيغها الذوق السليم، حتى قال الباجي: وإنما أوردت هذا ههنا لما عني به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها، وتكلفهم في ذلك من تعسُّف التأويل ما لا يسوغ، هو أن الكتاب لم يزل في دور التنقيح والتهذيب، والحذف والزيادة، شأن الكتب التي يُعنى بها أصحابها أشد عناية، ويَصُبُّون فيها علمهم، ويعتبرونها عمدة بضاعتهم ورأس مالهم، وزادهم في الآخرة، وشأن العلماء الذين لا يزال عقلهم في نبوغ، وعلمهم في نمو، فلا يزال عقلهم مشغولًا بهذا الكتاب، ولا يزال قلمهم يتناوله بالتحسين والتحبير، وحياة الإمام البخاري لم يكن فيها هدوء واستقرار، بل كان ينتقل من بلد إلى بلد، ومن محنة إلى محنة، ومن جفاء إلى جفاء، حتى لقي ربَّه.

ويدلُّ على ذلك ما نقله الإمام أبو الوليد الباجي المالكي في مقدمة كتابه في "أسماء رجال البخاري"، فقال: "أخبرني الحافظ أبو ذر عبد الرحيم بن أحمد الهروي، قال: حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي، قال: انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه أشياء لم تتم، وأشياء مبيَّضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعضَ ذلك إلى بعض"، قال الباجي: "ومما يدلّ على صحة هذا القول: أن رواية أبي إسحاق المستملي، ورواية أبي محمد السَّرَخسي، ورواية أبي الهيثم الكُشميهني، ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طُرة أو رُقعة مضافة أنه من موضع ما، فأضافه إليه، ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث" (١).


(١) مقدمة "فتح الباري" (ص ٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>