ثمّ تبيّن سورة غافر أنّ الكثير من الناس معرضون عن أحسن الهدي مصرّون على الكفر: ﴿وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ [غافر / ٥٤٠]، وأنّ ذلك نابع من استكبارهم وغرورهم واعتقادهم بالاكتفاء بما عندهم من العلوم الدنيوية دونما حاجة إلى وحي إلهي: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [غافر / ٥٦٤٠].
[محور السورة]
محور السورة يدور حول الاستكبار الزائف أو الكبر في نفوس المصرّين على الكفر ممّن يظنّون أنفسهم مكتفين ذاتيا بما عندهم من العلم: ﴿ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ﴾ [٤/ ٤٠]، فيجادلون الحقّ بالباطل: ﴿وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ [/ ٥٤٠]، ومن صفات المصرّ على الكفر المتمسّك بالباطل أن يكون - لشدة غروره - متكبرا منكرا للحساب: ﴿وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ﴾ [/ ٢٧٤٠]،
ومن سننه تعالى في خلقه أنّ المتكبر الجبار يجادل بالباطل بلا برهان يقيني فيطبع على قلبه: ﴿الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ﴾ [/ ٣٥٤٠]، فليس من وجود حقيقي للباطل: ﴿لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ﴾ [/ ٤٣٤٠]، ولقوله تعالى: ﴿فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ﴾ [/ ٥٠٤٠]، ولأن شعور المبطلين بالكبر واعتقادهم بالاكتفاء الذاتي بما عندهم من العلم ليسا سوى وهم محض، ومن ثمّ ما هم ببالغي الغاية من غرورهم وأهوائهم، لأنهم في الحقيقة يعبدون أوهامهم