الخلق، مما يبهر العقول، محيطة بهم، وضرب تعالى مثلا بخلق الدواب والطيور، فلو لم يكن الكفار من المكابرين أو الجاهلين لتوصّلوا إلى الإيمان ﴿ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ كلّ شيء مكتوب ومشمول بالعلم الإلهي منذ خلق الله السماوات والأرض، ومنه قوله ﷺ:«جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة»، فيكون الكتاب هو المشار إليه بالآية (٥٩).
ويحتمل المعنى أيضا أنّ الكتاب هو القرآن، لأن الله تعالى ضمّنه كل ما هو ضروري لهداية البشر، ومن ثمّ صارت الحجة بيّنة على الناس ولا عذر لهم بالجهل أو الغفلة ﴿ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ ليوم الحساب، والضمير عائد للكفار الذين قالوا لولا نزّل عليه آية من ربه، وقال بعضهم بل يعود إلى الأقرب وهي أمم الدواب والطيور.
٣٩ - ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ﴾ رغم كل ما سبق بيانه من معجزات الخلق والأكوان ترى الكفار مصرين على التكذيب، فهم كمن يتخبط في الظلمات لأنه أغمض عينيه عن الحق، والظلمات هي ظلمات الكفر، وظلمات الجهل، وظلمة العناد، وظلمة التقليد في الباطل، وهم أيضا كالصم، لأنهم لا يسمعون الآيات سماع تفهم وتفكر لتوهمهم أنهم بغنى عنها سلفا، وكالبكم لأنهم لا ينطقون بما استيقتنه قلوبهم من الحق بل يتكتموا عليه ويجحدوه ﴿مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ﴾ أي يتركه لما اختار من الضلال بحسب استعداده، ولا يمنعه من الضلال قهرا وجبرا، والآيات في ذلك كثيرة ومنها قوله عزّ شأنه ﴿وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢/ ٢٦] أي الذين اختاروا الفسوق وأصروا عليه ﴿وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ من يختار الهداية يوفقه تعالى لاستخدام عقله استخداما يعرف به الحق ويقرّ به ويعمل بموجبه.