يا أمير المؤمنين من جناح أبا زير قدور فاح طيبها، فتاقت نفسي إليها، وإلى طيب ريحها، فوقفت على خيّاط، وقلت له: لمن هذه الدّار؟ فقال: لرجل من التّجّار، من البزّازين؛ فقلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان، فرميت بطرّفي إلى الجناح فإذا في بعضه شبّاك، فأنظر إلى كفّ قد خرج من الشّباك قابضاً على بعضه، فشغلني يا أمير المؤمنين حسن الكفّ والمعصم عن رائحة القدور، فبقيت ها هنا ساعةً، ثم أدركني ذهني، فقلت للخيّاط: هل هو ممّن يشرب النبيذ؟ قال: نعم، وأحسب عنده اليوم دعوة، وليس ينادم إلاّ تجّاراً مثله مستورين.
فإني كذلك إذا أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدّرب، فقال الخيّاط: هؤلاء منادموه؛ فقلت: ما أسماؤهما وماكناهما؟ فقال: فلان وفلان، وأخبرني بكناهما، فحرّكت دابّتي وداخلتهما، وقلت: جعلت فداكما، استبطأكما أبو فلان أعزّه الله، وسايرتهما، حتى أتينا إلى الباب، فأجلاني وقدّماني، فدخلت ودخلا، فلّما رآني معهما صاحب المنزل، لم يشكّ أني منهما بسبيل، أو قادم قدمت من موضع، فرحّب وأجلسني في أفضل المواضع، فجيئ يا أمير المؤمنين بالمائدة، وعليها خبز نظؤف، وأتينا بتلك الألوان، فكان طعمها أطيب من ريحها؛ فقلت في نفسي، هذه الألوان قد أكلتها، بقيت الكفّ أصل إلى صاحبتها؛ ثم رفع الطّعام وجيء بالوضوء، ثم صرنا إلى منزل المنادمة، فإذا أشكل منزل أمير المؤمنين، وجعل صاحب المنزل يلطفني، ويقبل عليّ بالحديث، وجعلوا لا يشكّون أن ذلك منه لي عن معرفة متقدمة، وإنّما ذلك الفعل كان منه لما ظنّ أني منهما بسبيل؛ حتى إذا شربنا أقداحاً خرجت علينا جارية يا أمير المؤمنين كأنها غصن بان تتثنّى، فأقبلت تمشي، فسلّمت غير خجلة، وثنيت لها وسادة فجلست، وأتي بعود فوضع في حجرها، فجسّته، فاستنبأت في جسّها حذقها، ثم اندفعت تغنّي وتقول: من الطويل
توهّمها طرفي فأصبح خدّها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر
وصافحها قلبي فآلم كفّها ... فمن مسّ قلبي في أناملها عقر