كنا نجلس عند الكعبة وعبد الملك بن مروان يجالسنا، من رجل عذب اللسان، لا يمل جليسه حديثه، فقال لي ذات يوم: يا أبا إسحاق، إنك إن عشت فسترى الأعناق إلي مادة، والآمال إلي سامية. ثم قام، فنهض من عندنا، فأقبلت على جلسائي فقلت: ألا تعجبون من هذا القرشي، يذهب بنفسه إلى معالي الأمور، وإلى أشياء لعله لا ينالها؟! قال: فلا والله ما ذهبت الأيام حتى قيل لي إنه قد أفضت الخلافة إليه، فذكرت قوله فتحمّلت إليه، فوافيت دمشق يوم جمعة، فدخت المقصورة، فإذا أنا وقد خرج علي من الخضراء فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، فبينما هو يخطب إذ نظر إلي ثم أعرض عني، فساءني ذلك، فنزل وصلى، ودخل الخضراء، فما جلست إلا هنيهة حتى خرج غلامه: أين عمارة العقيلي؟ قلت: هذا أنا ذا، قال: أجب أمير المؤمنين، فدخلت إليه، فسلمت عليه بالخلافة، فقال لي: أهلاً وسهلاً وناقة ورحلاً، كيف كنت بعدي؟ وكيف كنت في سفرك؟ وكيف من خلفت؟ لعلك أنكرت إعراضي عنك، فإن ذلك موضع لا يحتمل إلا ما صنعت، يا غلام، بوّئ له بيتاً معي في الدار، فأنزلني بيتاً، فكنت آكل معه وأسامره حتى مضت لي عشرون يوماً، فقال لي: يا أبا إسحاق، قد أمرنا لك بعشرين ألف دينار، وأمرنا لك بحملان وكسوة، فلعلك قد أحببت الإلمام بأهلك، ثم الإذن في ذلك إلينا، أتراني حققت أملك أبا إسحاق؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، وإنك لذاكر لذلك؟ قال: إي والله، وإن تمادى به عهد، قلت: يا أمير المؤمنين، أكان عندك فيما قلت عهدٌ أو بماذا؟ قال: بثلاث اجتمعن فيّ، منها إنصافي لجليسي في مجلسي، ومنها أني ما خيرت بين أمرين قط إلا اخترت أيسرهما، ومنها قلة المراء.