فغضبت الجارية وقالت: أيضرب مثل هذا الأسود لي الأمثال؟ فنظروا إلي نظراً كثيراً، ولم يزالوا يسكنونها، ثم غنت صوتاً، قال ابن مسجح: فقلت: أحسنت والله، فغضب مولاها، وقال أمثل هذا الأسود يقدم على جاريتي؟ فقال لي الرجل الذي أنزلني عنده: قم فانصرف إلى منزلي فقد ثقلت على القوم، فذهبت لأقوم فتذمم القوم وقالوا لي: بل أقم وأحسن أدبك، فأقمت، وغنت فقلت: أخطأت والله يا زانية، وأسأت، ثم اندفعت فغنيت الصوت، فوثبت الجارية فقالت لمولاها: هذا أبو عثمان سعيد بن مسجح فقلت: أني والله أنا هو، والله لأقيم عندكم، فوثب القرشيون، فقال هذا يكون عندي، وقال هذا: لا بل يكون عندي، فقلت: لا والله لا أقيم إلا عند سيدكم " أعني الرجل الذي أنزلني منهم " وسألوه عما أقدمه، فأخبرهم الخبر، فقال له صاحبه: أني أسمر الليلة مع أمير المؤمنين، فهل تحسن أن تحدو؟ فال: لا والله، ولكني أصنع حداء، قال له: فإن منزلي بحذاء منزل أمير المؤمنين، فإذا وافقت منه طيب نفس أرسلت إليك، ومضى إلى عبد الملك، فلما رآه طيب النفس أرسل إلى ابن مسجح فأخرج رأسه من وراء شرف القصر ثم حدا الرجز:
إنك يا معاذ يا بن الفضل ... إن زلزل الأقوام لم تزلزل
عن دين موسى والكتاب المنزل ... تقيم أصداغ القرون الميّل
للحق حتى ينتهوا للأعدل
فقال عبد الملك للقرشي: من هذا؟ قال: رجل حجازي قدم عليّ، قال: أحضره فأحضره، فقال له أحد فحدا، ثم قال له: هل تغني غناء الركبان؟ قال: نعم قال: غنّه فغنى، فقال له: هل تغني الغناء المتقن؟ قال: نعم، قال: غنّه، فتغنى فاهتز عبد الملك طرباً، ثم قال له: أقسم أنك لك في القوم اسماً كبيراً من أنت ويلك، قال: أنا المظلوم المقبوض ماله، المسير من وطنه سعيد بن المسجح، قبض مالي عامل الحجاز ونفاني، فتبسم عبد الملك ثم قال قد وضح عذر فتيان قريش في أن ينفقوا عليه أموالهم، وأمنه ووصله، وكتب إلى عامله برد ماله، وألا يعرض به بسوء، فعاد إلى ماله ووطنه.