فثبتت القلال، وألقوا الصخر والحجارة عليها، وبنى حتى ارتفع البناء وفرق الشياطين في أنواع العمل، فكانت الشياطين دأبوا في عمله وجعل فرقة منهم يقطعون معادن الياقوت والزمرد وألوان الجوهر، فجعل الشياطين صفاً مرصوصاً ما بين معدن الرخام إلى حائط المسجد، فإذا قطعوا من المعدن حجراً أو اسطوانة يلقاه الأول منهم الذي يلي المعدن ثم الذي يليه، فيلقى بعضهم بعضاَ حتى ينتهي إلى المسجد، وجعل يقطع الرخام الأبيض منه مثل بياض اللبن من معدن يقال له السامور ليس بهذا السامور الذي في أيدي الناس، ولكن هذا به سمي، وإنما دل على معدن السامور عفريت من الشياطين كان في جزيرة من جزائر البحر، فدلوا سليمان عليه، فأرسل إليه بطابع من حديد، وكان خاتمه يرسخ في الحديد والنحاس فيطبع إلى الجن بالنحاس، ويطبع على الشياطين بالحديد فلا يجيبه أقاصيهم إلا بذلك، وكان خاتمه أنزل عليه من السماء، حلقته بيضاء، وطابعه كالبرق لا يستطيع أحد يملأ منه بصره.
فلما بعث إلى العفريت وجاءه قال له: هل عندك من حيلة أقطع بها الصخر فإني أكره صوت الحديد في مسجدنا هذا وصريره للذي أمرنا به من الوقار والسكينة، فقال له العفريت: ابغني وكر عقاب، فإني لا أعلم في الطير أشد من العقاب فنفحه برجله ليقطعه فلم يقدر عليه، فحلق في السماء متلطفاً، فلبث يومه وليلته، ثم أقبل ومعه خصين من السامور معترض، فتفرقت الشياطين حتى أخذوه منه، وأتوا به على سليمان فكان به يقطع الصخر، وعمل سليمان بيت المقدس عملاً لا يوصف ولا يبلغ كنهه أحد، وزينه بالذهب والفضة والدر والياقوت والمرجان وألوان الجوهر في سمائه وأرضه وأبوابه وجدره وأركانه شيئاً لم ير مثله، ولم يعلم يومئذ كان على ظهر الأرض موضع كان أعظم منه، ولا عرض من عرض الدنيا أكبر منه، فتسامعت به الخلائق، وشهدته ملوك الأرض، وكان نصب أعينهم، ولكنهم لم يكونوا يرومونه مع سليمان.