وغزاه عبد الرحمن من بعد ذلك، فوقعت نفرة في عسكره، فانهزم، وانصرف عبد الرحمن ومن معه بلا حرب. وجعل عبد الرحمن لمن أتاه برأسه جعلاً، فأتاه رجل من أصحاب يوسف برأس يوسف، فسره ذلك، فأجازه، وأكرمه.
وأقام عيال يوسف في مسكنهم لم يهجهم بشيء، فلما كان بعد ذلك خير عياله في الخروج عنه، أن المقام في موضعهم، فاختاروا موضعهم، فأقاموا فيه.
وكان عبد الرحمن الأندلسي، ووليها نائباً، وقال: إن أتت رسل بين العباس سلمت إليهم، وأنزلتهم هاهنا، فقال له مولاه - يقال له: مهدي بن الأصفر -: تخاف قوماً بينك وبينهم طول هذه المدة، والبحر دونك ودونهم؟ فأشار عليه ألا يفعل، فقبل منه.
ولعبد الرحمن أدب وشعر. ومما أنشد له يتشوق إلى معاهده بالشام: من الخفيف
أيها الراكب الميمم أرضي ... أقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرضٍ ... وفؤادي ومالكيه بأرض
قدر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضي
وكان من أهل ذلك الصقع جفاء وغلظة، فلما أمن به عبد الرحمن، ونشأ أولاده فضلاء علماء سمحاء توفر أعيان الرعية به على التأدب والتفقه، فرقت حواشيهم، ونبغ فيهم شعراء، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، والملك سوق يجلب إليها ما ينفق فيها.
وكان المنصور يثني على عبد الرحمن، ويقول: ذاك صقر قريش، دخل المغرب وقد قتل قومه، فلم يزل يضرب العدنانية بالقحطانية، ويلبس القحطانية بالعدنانية حتى ملك.
وكان الناس يقولون: ملك الأرض ابنا بربريتين - يعنون: عبد الرحمن والمنصور، أم المنصور سلامة البربرية، وأم عبد الرحمن راح البربرية.