قال يعقوب: ثم كان فتح الإسكندرية الأول، وأميرها عمرو بن العاص سنة ثنتين وعشرين؛ وغزوة عمرو بن العاص أطرابلس الغرب سنة ثلاث وعشرين؛ ثم كان فتح الإسكندرية الأخيرة أميرها عمرو بن العاص سنة خمس وعشرين.
قال عمرو بن العاص: خرج جيش من المسلمين أنا أميرهم حتى نزلنا الإسكندرية، فقال عظيم من عظمائهم: أخرجوا إلىّ رجلاً أكلّمه ويكلّمني. فقلت: لا يخرج إليه غيري. فخرجت معي ترجمان ومعه ترجمان حتى وضع لنا منبران؛ فقال: ما أنتم؟ قلت: نحن العرب، ومن أهل الشّوك والقرظ، ونحن أهل بيت الله، كنّا أضيق النّاس أرضاً وشرّه عيشاً، نأكل الميتة والدّم، ويغير بعضنا على بعض، كنّا بشر عيش عاش به النّاس، حتى خرج فينا رجل ليس بأعظمنا يومئذ شرفاً ولا أكثرنا مالاً، وقال: أنا رسول الله إليكم؛ يأمرنا بما لا نعرف وينهانا عمّا كنّا عليه آباؤنا، فشنفنا له وكذّبناه، ورددنا عليه مقالته، حتى خرج إليه قوم من غيرنا فقالوا: نحن نصدّقك ونؤمن بك ونتّبعك ونقاتل من قاتلك؛ فخرج إليهم، وخرجنا إليه، وقاتلناه فقتلنا وظهر علينا وغلبنا، وتناول من يليه من العرب فقاتلهم حتى ظهر عليهم، فلو يعلم من ورائي ما أنتم فيه من العيش لم يبق أحد إلاّ جاءكم حتى يشرككم فيما أنتم فيه من العيش. فضحك ثم قال: إن رسولكم قد صدق، وقد جاءتنا رسلنا بمثل الذي جاء به رسولكم، وكنّا عليه حتى ظهرت فينا ملوك فجعلوا يعلمون فينا بأهوائهم ويتركون أمر رسولكم، فإن أنتم أخذتم بأمر نبيّكم لم يقاتلكم أحد إلاّ غلبتموه، ولم يسارقكم أحد إلاّ ظهرتم عليه؛ فإذا فعلتم مثل الذي فعلنا فتركتم أمر نبيّكم، وفعلتم بمثل الذي عملوا بأهوائهم، وخلّي بيننا وبينكم، لم تكونوا أكثر عدداً منّا ولا أشدّ منّا قوّةً. قال عمرو بن العاص: فما كلّمت رجلاً قطّ أذكى منه.