وثمانين وأربع مئة، ودرس فتطوش، ثم ترك التدريس والمناظرة واشتغل بالعبادة، وكان حجة الإسلام والمسلمين، وإمام أئمة الدين، لم تر العيون مثله لساناً وبياناً ونطقاً وخاطراً وذكاءً؛ وقد نيسابور واختلف إلى درس إمام الحرمين، وجد واجتهد حتى بذ الأقران وصار واحد أقرانه في أيام إمام الحرمين، وبلغ الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف؛ وكان الإمام مع علو درجته لا يصفي نظره إلى الغزالي ستراً لإنافته عليه في سرعة العبارة، وقوة الطبع، ولا يطيب له تصديه للتصانيف، وإن كان منتسباً إليه كما لا يخفى من طباع البشر، لكنه يظهر التبجح به والاعتداد بمكانه ظاهراً خلاف ما يضمر، وبقي كذلك إلى انقضاء أيام الإمام فخرج من نيسابور وصار إلى المعسكر وحل من مجلس نظام الملك محل القبول، وأقبل عليه، وكانت تلك الحضرة محل رحال العلماء، ووقعت للغزالي اتفاقاتٌ حسنةٌ من الاحتكاك بالأئمة، وملاقاة الخصوم اللد، ومناظرة الفحول؛ فظهر اسمه في الآفاق ورسم له بالمصير إلى النظامية للتدريس بها، وصار بعد إمامة خراسان إمام العراق، ثم نظر في علم الأصول وصنف فيها تصانيف، وحرر المذهب والخلاف، وصنف فيهما تصانيف وعلت درجته وحشمته في بغداد حتى كان يغلب حشمه الأكابر والأمراء ودار الخلافة، فانقلب الأمر من وجهٍ آخر وظهر عليه بعده ذلك طريق التزهد والتأله، فترك الحشمة، وطرح ما نال من الدرجة، فخرج عما كان فيه، وحج ودخل الشام، وأقام في تلك الديار قريب عشر سنين يزور المشاهد المعظمة؛ وأخذ في التصانيف التي لم يسبق إليها، مثل إحياء علوم الدين، والأربعين وغيرها من التصانيف التي من تأملها علم محل الرجل من فنون العلم؛ وأخذ في مجاهدة النفس وتغيير الأخلاق، فانقلب شيطان الرعونة وطلب الرئاسة إلى سكون النفس وكرم الأخلاق ووقف الأوقات على هداية الخلق ودعائهم إلى ما يعنيهم من أمر الآخرة وتبغيض الدنيا، ثم عاد إلى وطنه لازماً بيته، مشتغلاً بالتفكر، ملازماً للوقت حتى انتهت نوبة الوزارة إلى فخر الدولة جمال الشهداء وقد تحقق مكان الغزالي وفضله، فحضره وسمع كلامه وتبرك به واستدعى منه أن يبقي أنفاسه وفوائده عقيمةً لا استفادة منها ولا اقتباس من