أشغال أدت إلى اللحاق بسيف الدولة، فسرت متحسراً على ما فاتني من معرفة حقيقة خبره، ولم أزل متلهفاً على ما سلبته من فراقه، ولم أحصل على حقيقة خبر يطمعني في لقائه إلى أن عاد سيف الدولة إلى دمشق، فما بدأت بشيء قبل المصير إلى الدير، وطلبت الراهب، وسألته عن خبره، فقال: أما الآن فنعم، هذا فتى من المادرائيين، عظيم النعمة، جليل القدر، كان ضمن من السلطان بمصر ضياعاً بمال عظيم، فخاش به ضمانه وأشرف على الخروج من نعمته، فاستتر، واشتد البحث عنه، فخرج مختفياً إلى هذا البلد بزي تاجر، واستتر عند بعض إخوانه ممن أعرفه، فإني يوماً عنده إذ ظهر لي وقال لصديقه: إني أريد الانتقال إلى هذا الراهب إن كان علي مأموناً، فذكر له صديقه مذهبي، وأظهرت المسرة بما رغب فيه من الأنس بي، وأنا لا أعرفه، غير أن صديقي أمرني بخدمته، وأكد علي تأكيداً عرفت منه جلالة قدره، وحصل في قلايتي يواصل الصوم، فبعد أيام جاءنا رسول صديقنا ومعه الغلام والخادم وقد لحقا به بسفاتج وعليهما ثياب رثة، فلما نظر إلى الغلام قال: يا راهب، جاء الفطر مع إقبال العيد. ووثب إليه فاعتنقه، وقبل بين عينيه ويبكي، وأنفذ رقعة منه إلى صديق له، فحمل إلينا ألفي دينار، فدفع إليه منها ثلاث مئة دينار وقال له: ابتع لنا ما نستخدمه في هذه الضيقة. فابتاع آلة وفرشاً، ولم يزل مكباً على ما رأيت إلى أن ورد عليه غلمانه بالبغال والآلات الحسنة، وكتب أهله باجتماعهم على الإخشيد، وتعريفهم حاله، في بعده عن وطنه لضيق يده عما يطالب به، والتوقيع بحطيطة المال عنه، وبعوده إلى بلده بالكتب، فلما عمل على المسير قال لغلامه: سلم ما بقي من نفقتك إلى الراهب يصرفه في مصالح الدير إلى أن نواصل تفقده من مستقرنا. وسار وما له حسرة غيرك، ولا يشرب إلا على ما يغنيه الغلام من شعرك، وهو بمصر على أفضل حال، ما يخل بتفقدي. فتعجلت بعض السلوة بما عرفته من حقيقة خبره، وأقمت يومي عند الراهب، وانصرفت.