فلّما كان الغد خرج وكان فقيراً ليس وراءه دنيا، ولكن له جاة عند النّاس، فدخل عليه أبناء الدّنيا وأخذ منهم شيئاً، وأمر بشراء بقرة، وكثير من لحم الغنم والأرزّ، وآلات الحلواء، وأمر منادياً في البلد: ألا من كان له حاجة في الخبز واللّحم والحلوى، فليمض غداً إلى المصلى.
وأمر بالمراجل حتى حملت إلى المصلّى؛ فلّما كان الغد خرجنا معه، وأمر بطبخ المرق والأرزّ والحلوى، وجاؤوا بخبز كثير، وجاء الفقراء من الرّجال والنّساء والصّبيان، وأكلوا وحملوا إلى وقت العصر؛ فلّما صلّينا العصر إذا هي قطعة سحاب، فقال لنا: شمّروا حتى نرجع؛ فجاء الحّمالون فأخذوا الآلات ورجعوا، وأصحابه معهم. وبقي هو وأنا معه، وهو صائم وأنا أيضاً لأجل موافقته، فرجعنا، فلّما بلغنا إلى محلّة جودي كان قريباً من صلاة المغرب، فمطرنا مطراً لا نستطيع المضيّ بحال، فطلبنا مسجداً فدخلناه، وجاء المطر كأفواه القرب، والمسجد يكف بالمطر، وفي جداره محراب، فدخل الأستاذ المحراب وصلينا، وأنا في زاوية في المسجد، وقال: لعلك جائع تريد أن أطلب من الأبواب كسرةً حتى تأكل؟ فقلت: معاذ الله، أنا ساكن، قال: غداً لناظريه قريب؛ وكان يترنم مع نفسه: من الكامل
خرجوا ليستسقوا فقلت لهم قفوا ... دمعي ينوب لكم عن الأنواء
قالوا صدقت ففي دموعك مقنع ... لو لم تكن ممزوجةً بدماء
وقلت في نفسي: ليتك لم تخرج إلى الاستسقاء حتى لم أبتل بما ابتليت به من الجوع والظما والبرد؛ ونمت في ناحية المسجد؛ فلّما كان الصّبح قال لي: قم يا أبا عبد الرحمن واطلب الماء وتطهّر حتى نصلّي ونخرج، فقمت وتوهّمت أنه قد تطهّر، فقلت: أين تطهّر الأستاذ؟ قال: ما تطهّرت؛ فخرجت وتطهّرت وصلّينا وخرجنا، وما نام ليلته، وصلّى على طهارة الأمس.
قال: ولمّا دخلنا مكة حرسها الله تعالى نظر إلى تلك المقبرة، فقال: