للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أو بلدة دخلناها، يقول لي: قم حتى نسمع الحديث، وكان مع جلالته وكثرة ما عنده من العلم، يحمل المحبرة والبياض، ويحضر سماع الحديث، ويطلب أهله، وكان رحمه الله شديد الحرص على كتابته والحبّ له.

ولمّا دخلنا بغداد قال لي: قم بنا نذهب إلى أبي بكر بن مالك القطيعي رحمه الله، وكان عنده إسناد حسن، وكان له ورّاق قد أخذ من الحاجّ شيئاً ليقرأ لهم، وفي مجلسه خلق من الحاجّ وغيرهم؛ فلّما دخلنا عليه قعد الأستاذ ناحيةً من القوم، والورّاق يقرأ فأخطأ، فردّ عليه الأستاذ، فنظر إليه الورّاق شزراً، فأخطأ أيضاً في شيء، فردّ عليه أيضاً، فنظر الورّاق إليه شزراً؛ والبغداديون لا يحتملون من أهل خراسان أن يردّوا عليهم شيئاً، فلمّا كان في المرّة الثالثة ردّ عليه، قال الورّاق: يا رجل، إن كنت تحسن تقرأ فتعال فاقرأ! كالمستهزئ به فقام الأستاذ، وقال: تأخر قليلاً، فاخذ الجزء من يده، وأخذ يقرأ قراءةً تحيّر ابن مالك ومن حوله تعجّباً منه، حتى حان وقت الظهر.

قال: فسألني الورّاق: من هذا الرّجل؟ قلت: الأستاذ أبو القاسم النّص آبادي، فقام الورّاق وقال: أيّها النّاس، هذا شيخ خراسان أبو القاسم النّصرآبادي، وقد كتب الحديث ها هنا، وأقام ببغداد خمس عشرة سنةً؛ فقرأ في مجلس واحد ما كان يريد الورّاق أن يقرأه في خمسة أيام.

ولمّا دخلنا البادية كان كلّما نزل عن راحلته في سيره لا تفارقه المحبرة والمقلمة والبياض، فرأيته ونحن في رحل المفسر، وفي كمّه المحبرة والمقلمة والبياض والأجزاء، فقلت له: أيها الأستاذ، في هذا الموضع، والنّاس يخفّفون عن أنفسهم؟! فقال يا أبا عبد الرحمن، ربّما أسمع شيئاً من جمّال أو غيره حكمةً، أثبته كي لا أنسى.

قال: وكان في سنة من السنين قحط، فخرج النّاس إلى الاستسقاء، إلى المصلّى، فلّما ارتفع النّهار جاء غبار وريح وظلمة لا يستطيع أن يرى أحد من شدّة الغبار، ونحن مع الأستاذ أبي القاسم؛ فقال لنا الأستاذ: جئنا بأبدان مظلمة، وقلوب غافلة، ودعاء مثل الرّيح، فنحن نكيل ريحاً، فيكال علينا ريح.

<<  <  ج: ص:  >  >>