ثم قال لي: يا سيّدي ذهب ما كان من أيّامي ضياعاً إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت يا مولاي؟ فلم يزل يلحّ عليّ حتى أخبرته، فقام فقّبل رأسي، وقال: يا سيدي، وأنا أعجب يكون هذا الأدب إلاّ من مثلك! وإذا أني مع الخلافة وأنا لا أشعر! ثم سألني عن قصّتي، وكيف حملت نفسي على ما فعلت؛ فأخبرته خبر الطعام، وخبر الكفّ والمعصم، فقلت: أما الطعام فقد نلت منه حاجتي؛ فقال: والكفّ والمعصم؟ ثم قال: يا فلانة لجارية له فجعل ينزل لي واحدةً واحدةً، فأنظر إلى كفّها ومعصمها، فأقول: ليس هي؛ قال: والله ما بقي غير أختي وأمّي، والله لأنزلنّهما إليك! فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداك، ابدأ بأختك قبل الأم، فعسى أن تكون هي؛ فقال: صدقت، فنزلت، فلّما رأيت كفّها ومعصمها، قلت: هي ذه! فأمر غلمانه فصاروا إلى عشرة من جلّة جيرانه في ذلك الوقت، فأحضروا، ثم أمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، وقال للمشايخ: هذه أختي فلانة، أشهدكم أني قد زوّجتها من سيّدي إبراهيم بن المهديّ، وأمهرتها عنه عشرة آلاف درهم؛ فرضيت وقبلت النّكاح، ودفع إليها البدرة، وفرّق الأخرى على المشايخ؛ ثم قال لهم: اعذروا وهذا ما حضر على الحال، فقبضوها ونهضوا.
ثم قال لي: يا سيّدي، أمهّد لك بعض البيوت تنام مع أهلك، فأحشمني والله ما رأيت من سعة صدره، وكرم خيمه؛ فقلت: بل أحضر عماريّة وأحملها إلى منزلي؛ قال: ما شئت.
فأحضرت عماريّة فحملتها وصرت بها إلى منزلي.
فوحقّك يا أمير المؤمنين لقد حمل إليّ من الجهاز ما ضاقت به بعض بيوتنا، فأولدتها هذا القائم على رأس سيّدي أمير المؤمنين.
فعجب المأمون من كرم ذلك الرّجل، وسعة صدره، وقال: لله أبوهّ ما سمعت مثله قط؛ ثم أطلق الرّجل الطّفيليّ وأجازه بجائزة سنيّة، وأمر إبراهيم بإحضار الرّجل، فكان من خواصّ المأمون وأهل محبّته.
وقال محمد بن الحارث بن بسخنّر: وجّه إليّ إبراهيم بن المهدي يوماً يدعوني، وذلك في أوّل خلافة المعتصم، فصرت إليه، وهو جالس وحده، وشارية جاريته خلف السّتارة؛ فقال لي: إني قلت شعراً وغنّيت فيه فطرحته على شارية، فأخذته وزعمت أنها أحذق به منّي، وأنا أقول: إني أحذق به منها، وقد رضيناك حكماً بيننا لموضعك من هذه الصّناعة، فاسمعه منّي ومنها، واحكم ولا تعجل، حتى تسمعه ثلاث مرّات، فاندفع يغنّي: من الطويل
أضن بليلى وهي غير سخيّة ... وتبخل ليلى بالهوى فأجود
وأنهى فلا ألوي على زجر زاجر ... وأعلم أني مخطئ فأعود
فأحسن فيه وأجاد، ثم قال لها: تغنّي، فغنّت، فبرّزت فيه، حتى كأنه كان معها في أبي جاد، ونظر إليّ فعرف أني قد عرفت فضلها، فقال: على رسلك؛ ثم اندفع فغنّاه ثانية فأضعف في الإحسان، ثم قال لها: تغنّي، فبرعت وازدادت أضعاف زيادته، وكدت أشقّ ثيابي طرباً، فقال: تثبّت ولا تعجل؛ ثم غنّاه ثالثة، فلم يبق غاية في الإحكام، ثم أمرها فغنّت، فكأنما كان يلعب، ثم قال: قل: فقضيت لها، قال: