ولا سهل دهس؛ مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير، وثغاء الشاء، وخوار البقر، وبكاء الصغير؟! قالوا: ساق مالك مع الناس أبناءهم وأموالهم ونساءهم. قال: يا معشر هوازن، أمعكم من بني كلاب بن ربيعة أحد؟ قالوا: لا، قال: فمعكم من بني كعب بن بيعة أحد؟ قالوا: لا، قال: فمعك من بني هلال بن عامر أحد؟ قالوا: لا، قال دريد: لو كان خيراً ما سبقتموهم إليه، ولو كان ذكراً وشرفاً ما تخلفوا عنه، فأطيعوني يا معشر هوازن، وارجعوا وافعلوا ما فعل هؤلاء، فأبوا عليه؛ قال: فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر؛ قال: ذانك الجذعان من عامر، لا يضران ولا ينفعان، ثم قال: أين مالك؟ قالوا: هذا مالك، فقال: يا مالك، إنك تقاتل رجلاً كريماً، وقد أصبحت رئيس قومك، فإن هذا اليوم كائن له ما بعده من الأيام، يا مالك، مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وخوار البقر وبكاء الصغير ويعار الشاة؟ قال مالك: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم. قال دريد: ولم؟ قال مالك: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله وولده ونساءه حتى يقاتلوا عنهم. قال: فأنقض بيده ثم قال: راعي ضأن! ماله وللحرب، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك؛ ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الجد والحد، ولو كان يوم رفعة وعلاء لم تغب عنه كعب ولا كلاب. يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، فإذ صنعت ما صنعت فلا تعصني في هذه الخطة: ارفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم وعزهم، ثم الق القوم على متون الخيل، فإن كان لك لحق بك من وراءك وكان أهلك لا فوت عليهم، وإن كانت عليك ألقاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. فغضب مالك من قوله وقال: والله لا أفعل ولا أغير أمراً صنعته، إنك قد كبرت وكبر علمك، وحدث بعدك من هو أبصر بالحرب منك. قال دريد: يا معشر هوازن، والله ما هذا لكم برأي، هذا فاضحكم في عوراتكم، وممكن منكم عدوكم، ولاحق بحصن ثقيف وتارككم، فانصرفوا واتركوه. قال: فسل مالك سيفه ثم نكسه ثم قال: يا معشر هوازن، لتطيعني أو لأتكئن على السيف حتى يخرج من ظهري. وكره مالك أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي. فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: والله لئن عصينا مالكاً وهو ساب ليقتلن نفسه، ونبقى مع دريد، شيخ كبير، لا قتال فيه ابن ستين ومئة سنة. فأجمعوا رأيهم مع مالك. فلما رأى دريد أنهم قد خالفوه قال: هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع
وكان دريد قد ذكر بالفروسية والشجاعة ولم يكن له عشرون سنة، وكان سيد بني جشم وأوسطهم نسباً، ولكن السن أدركته حتى فني فناءً.
قالوا: وقال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد.
قالوا: فبعث سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيلاً تتبع من سلك نخلة ولم تتبع من سلك الثنايا؛ ويدرك ربيعة بن رفيع بن وهبان بن ثعلبة، فأدرك ربيعة دريد بن الصمة، فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة وذلك أنه كان في شجار له فإذا هو رجل، فأناخ به وهو شيخ كبير ابن ستين ومئة سنة، فإذا هو دريد ولا يعرفه الغلام فقال له