قال عبد الباري: سألت ذا النون رحمه الله فقلت: لم صير الموقف بالمشعر الحرام ولم يصير بالحرم؟ فقال لي: الكعبة بيت الله، والحرم حجابه، والموقف بابها؛ فلما قصده الوافدون أوقفهم بالباب يتضرعون، فلما أذن لهم بالدخول أوقفهم بالحجاب الثاني وهو المزدلفة؛ فلما نظر إلى طول تضرعهم له أمرهم بتقريب قربانهم، حتى إذا قربوا قربانهم وقضوا تفثهم وتطهروا من الذنوب التي كانت لهم حجاباً دونه أمرهم بالزيارة على طهارة. قلت: يا أبا الفيض، فلم كره الصوم أيام التشريق؟ فقال: القوم في ضيافة الله، فلا ينبغي للرجل أن يصوم عند من ضاف به. قلت: فما بال القوم يتعلقون بأستار الكعبة؟ فقال: مثل ذلك كمثل رجل له على رجل دين، فهو يتعلق بثوبه ويخضع له رجاء أن يهب له ذلك الدين.
قال يوسف بن الحسين الرازي: سمعت ذا النون يقول: كنت في الطواف فإذا أنا بجاريتين قد أقبلتا فتعلقت إحداهما بأستار الكعبة، فإذا هي تقول:
أما لفتاة حرد الهجر بينها ... وبين الذي تهواه يا رب من وصل
حججت ولم أحجج لسوء عملته ... ولكن لتعذيبي على قاطع الحبل
ذهبت بعقلي في هواه صغيرةً ... فقد كبرت سني فرد به عقلي
وإلا فساو الحب بيني وبينه ... فإنك يا مولاي توصف بالعدل
قال: فصحت بها وقلت: ويحك! أمثل هذا الشعر يقال لله عز وجل؟! فقالت: إليك عني يا ذا النون، فلو أطلعك الخبير على الضمير لرحمت من عذلت؛ ثم وثبت الأخرى فقالت: يا ذا النون؛ لأقولن أعجب من هذا، ثم أنشأت تقول:
صبرت وكان الصبر خير مغبة ... وهل جزع يجدي علي فأجزع؟
صبرت على ما لو تحمل بعضه ... جبال شرورى أصبحت تتصدع
ملكت دموع العين ثم رددتها ... إلى ناظري فالعين في القلب تدمع
فقلت: مماذا يا جارية؟ فقالت: من مصيبة نالتني، لم تصب أحداً قط؛ قلت: وما هي؟ قالت: كان لي شبلان يلعبان أمامي، وكان أبوهما ضحى بكبش، فقال أحدهما