التاجر فقالا له: توصي بشيء؟ قال: والله مالي مال أوصي فيه، ولا علي دَيْن فأوصي به، ولا أخلف من الدنيا عرضً. فقال ذو السلطان: هذا مالي يا أخي، أعهد إلي بما أحببت، فأمسك عنه. وقال التاجر: عرفت مكسبي، ولعل في قلبك غصة من الخير لم تبلغها إلا بالانفاق، فاحكم في مالي بما أنفذه لك. قال: لا حاجة لي في مالكما. ولكن أعهد إليهما عهداً، فلا تخالفاه: إذا مت فادفناني على نَشَزٍ من الأرض واكتبا على قبري:
وكيف يلذ العيش من هو عالم ... بأن إله الخلق لا بد سائله
فيأخذ منهُ ظلمَه لعباده ... ويجزيه بالخير الذي هو فاعله؟
ثم زوروا قبري ثلاثة أيام لعلكما تتعظان، ففعلا ذلك. وكان أخوه يركب في جنوده حتى يأتي قبره، فيقرأ عليه ويبكي. فلما كان اليوم الثالث أتى القبر. فلما أراد الانصراف سمع من داخل القبر هدّة أرعبته وأفزعته، فانصرف مذعوراً وجلاً. فلما كان الليل رأى أخاه في منامه فقال: أي أخي، ما الذي سمعتُ في قبرك؟ ّ قال: هذه المِقْمعة. قيل لي: رأيت مظلوماً فلم تنصره. فأصبح فدعا أخاه وخاصته فقال: ما أرى أخي أراد بما أوصانا أن نكتب على قبره إلا لنغير ونراجع ونتوب. وإني أُشهدكم أني لا أقيم بين ظهرانيكم أبداً. فترك الإمارة، ولزم العبادة. وبلغ ذلك عبد الملك فقال: خلوه وما اختار لنفسه، وكان مأواه البراري والجبال وبطون الأودية. فحضرته الوفاة وهو مع بعض الرعاء، فأتى الراعي أخاه فأعلمه فأتاه فحمله إلى منزله قبل موته. فقال: يا أخي، ألا توصي إلي؟ قال: مالي مال، ولا عليَّ دَيْن فأوصيك. ولكن أعهد إليك إذا أنا متّ فاجعل قبري إلى جنب قبر أخي واكتب عليه:
وكيف يلذ العيش من هو موقنٌ ... بأن المنايا بغتةً ستعاجلُهْ
وتسلبُه ملكاً عظيماً ونخوةً ... وتسكنه البيت الذي هو آهلهْ؟
ثم تعاهد قبري وادع الله عزّ وجلّ لي، لعله يرحمني. فلما مات فعل به أخوه ذلك.