للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلما كان اليوم الثالث من إتيانه القبر أراد أن ينصرف فسمع وَجْبَة من القبر كادت أن تذهل عقله. فرجع مرعوباً. فلما كان الليل رأى أخاه في منامه، قال: فوثبت إليه لما تداخل قلبي من السرور، فقلت له: يا أخي، أتيتنا زائراً أم راغباً؟ فقال: هيهات، بعُد المزار، واطمأنت بنا الدار. فليس لنا مزار، فقلت، فكيف أنت؟ قال: بكل خير. وما أجمع التوبة لكل خير. قلت: فكيف أخي؟ قال: مع الأئمة الأبرار. قال: قلت: فما مرنا قبلكم؟ قال: من قدّم شيئاً وجده. فاغتنم وُجْدك قبل فقرك، فاصبح أخوه الثالث معتزلاً الدنيا. وفرّق ماله، وقسّم متاعه، وأقبل على طاعة الله عزّ وجلّ.

ونشأ له ابن كأهنأ الشباب. فأقبل على المكاسب حتى أتت أباه الوفاة، فقال: يا أبه، ألا توصي؟ فقال: يا بني، ما لأبيك مال فأوصي فيه. ولكن أعهد إليك إذا أنا متّ أن تدفنني مع عميك، وأن تكتب على قبري:

وكيف يلذُّ العيشَ مَن هو صائرٌ ... إلى جدثٍ تُبلي الشباب منازلُهْ؟

ويذهبُ رسمُ الوجهِ من بعد ضوئه ... سريعاً ويبلي جسمه ومفاصله

ثم تعاهد قبري ثلاثاً، وادع الله عزّ وجلّ لي. ففعل الفتى ذلك.

فلما كان اليوم الثالث سمع من القبر صوتاً هاله، فانصرف مهموماً. فما كان الليل رأى أباه في منامه فقال له: يا بني، أنت عندنا عن قليل، والأمر جدّ. فاستعدّ وتأهّب لرحيلك وطول سفرك وطول جهازك من المنزل الذي أنت عنه ظاعن إلى المنزل الذي أنت له قاطن، ولا تغتر بما اغتر به البطالون من طول آمالهم فقصروا في أمر معادهم، فندموا عند الموت، وأسفوا على تضييع العمر، فلا الندامة عند الموت نفعتهم، ولا الأسف على التقصير أنقذهم. أي بني، فبادر، ثم بادر، ثم بادر.

قال الشيخ: فدخلت على الفتى صبيحة ثالثة رؤياه فقصها علي وقال: ما أرى الأمر الذي قال أبي إلا وقد أظلني، فجعل يفرق ماله، ويقضي دَيْنه، واستحلّ معامليه، وودعهم وداعَ مَن أيقن أمراً فهو متوقع. وكان يقول: قال أبي: بادر، ثم بادر، ثم بادر، ولا أحسبها إلا ثلاثة أشهر أو ثلاثة أيام. ولعلي لا أدركها، لأنها أنذرني بالمبادرة ثلاثاً. فلما

<<  <  ج: ص:  >  >>