سَبَخة زَعِقة نشَّاشة، لا يجف ثراها، ولا ينبُت مرعاها، طرفها في بحر أُجاج، والطرف الآخر في الفلاة، لا يأتينا شيء إلا في مثل مريء النعامة، فارفع خسيستنا، وأَنعش وكيستنا وزِد في عيالنا عيالاً، وفي رجالنا رجالاً، وأصقِر درهمنا وأكثِر قَفيزنا، ومُر لنا بنهر نستعذب منه الماء. فقال عمر: عجزتم أن تكونوا مثل هذا؟! هذا والله السيّد. فما زلت أسمعها بعد.
وكان أبو موسى حين قدم على عمر فسأله عما كان رفع إليه من أمره أحب أن يبحث عنه، فلم يقم أحد يكفيه الكلام، فقام الأحنف بن قيس وكان من أشبههم فقال: يا أمير المؤمنين، صاحبك مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواطن الحق، وعاملك ولم نر منه إلا خيراً، وإنا أناس بين سبَخَة وبين بحر أجاج، لا يأتينا طعامنا إلا في مثل حلقوم النعامة. فأعد لنا قفيزنا ودرهمنا، فأعجب منه ذلك عمر وأعرض عنه لحداثة سنّه، فقال له: اجلس يا أحنف، وكان برجله حَنف، فلذلك سماه الأحنف، فغلب لقبه على اسمه، فعرض عمر على الأحنف الجائزة، فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما قطعنا الفلوات، ودأبنا الروحات العشيات للجوائز! وما حاجتي إلا حاجة من خلّفت، فزاده ذلك عند عمر خيراً. فرد عمر أبا موسى ومن معه. وحبَس الأحنف عنده سنة، وجعل عليه عيوناً، فلم يسمع إلا خيراً، فدعا به فقال: يا أحنف، إنك قد أعجبتني، وإنما حبستك لأعلم علمك، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: احذروا النافق العالم، وأشفقت عليك منه، فوجدتك بريئاً مما تخوفت عليك، فسرّحه، وأحسن جائزته. ثم قدم على أبي موسى، فعرف ما كان منه إليه، فلم يزل للأحنف شرفٌ يعرف حتى خرج من الدنيا.
قال ابن سيرين: بعث عمر بن الخطاب الأحنف بن قيس على جيش قِبَل خراسان فبيتهم العدو