فطاف علي بن عيسى، وسعى، وجاء، فألقى بنفسه، وهو كالميت من الحرّ والتعب، وقلق قلقاً شديداً وقال: أشتهي على الله شربة ماء مثلوج، فقلت له: سيدنا، تعلم أن هذا ما لا يوجد بهذا المكان، فقال: هو كما قلت، ولكني نفسي ضاقت عن ستر هذا القول، فاستروحت إلى المنى، قال: وخرجت من عنده، فرجعت إلى المسجد الحرام، فما استقررت فيه حتى نشأت سحابة، وكثفت، فبرقت، ورعدت رعداً متصلاً شديداً، ثم جاءت بمطر وبرد، فبادرت إلى الغلمان، وقلت: اجمعوا، فجمعنا منه شيئاً كثيراً، وكان علي بن عيسى صائماً. فلما كان وقت المغرب خرج إلى المسجد الحرام ليصلي المغرب، فقلت له: أنت مقبل والنكبة زائلة وهذه علامات الإقبال فاشرب الثلج كما طلبت، وجئته إلى المسجد بأقداح مملوءة بأصناف الأسوقة والأشربة مكبوسة بالبرد، فأقبل يسقي ذلك من يقرب منه من المجاورين، ويستزيد، ونحن نأتيه بما عندنا، وأقول له: اشرب فيقول: حتى يشرب الناس، فخبأت مقدار خمسة أرطال وقلت له: لم يبق شيء، فقال: الحمد لله، ليتني تمنيت المغفرة بدلاً من تمنّي الثلج، فلعلي كنت أجاب. فلما دخل البيت حلفت عليه أن يشرب منه، ولم أزل أداريه حتى شرب منه بقليل سويق وتقوت ليلته بباقيه.
كن أبو بكر بن مجاهد يأتي كل جمعة إلى الوزير علي بن عيسى، فيجلسه في مرتبته، ويجلس بين يديه، يقرأ عليه، ويأمر الحاجب أن لا يأذن عليه لأحد في ذلك اليوم، ولو أنه من كان، وكان يسميه يا أستاذ، فسأله أبو بكر أن يكون موضع ذلك، يا سيدي. فلما كان في جمعة دخل الحاجب، فقال: بالباب جندي يريد الدخول، فانتهره، فخرج ورجع، فقال: إنه يقول: إنها حاجة مهمة ويكره الفوت، فيلحقنا من هذا ما نكره، فأمر بإحضاره، فدخل، فقال له: هيه، ما هذه الحاجة المهمة؟ فقال: أعلم الوزير أن لي ثلاثاً ما طعمت طعاماً لا من عوز، حتى لقد نتن فمي. فلما كان البارحة صليت ما كتب الله، ونمت فرأيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم في النوم، وكأني قد وقفت عليه، وسلمت، ثم قلت: يا رسول الله، هذا علي بن عيسى قد منع رزقي، وأتعبني في ملازمته والغدو والبكور إليه، فقال لي النّبي صلّى الله عليه وسلّم:" امض إليه برسالتي فإنه يدفع إليك رزقك "،