ليلة ولد عيسى بن مريم في ثلاث عشرة ليلة مضين من ذي القعدة، فخرت الأصنام كلها سجداً وتنكس كل صنمٍ كان يعبد من دون الله تعالى ما بين المشرق والمغرب، فانطلق إبليس وطار، فغاب عنهم مقدار ثلاث ساعات من النهار، فانصرف إليهم عوده على بدئه فقال: إني لم أدع مشارق الأرض ومغاربها ولا برها ولا بحرها، ولا سهلها ولا جبلها إلا أيتيه، فوجدت ذلك المولود ولد لغير بشر، فأتيته من بين يديه لأضع يدي عليه فإذا الملائكة دونه كأنهم بنيان مرصوص، من تخوم الثرى إلى أعنان السماء، فأتيته من فوقه فإذا الملاسكة مناكبها ثابتةٌ في السماء وأرجلها تحت الأرض الصفلى فلم أصل إلى ما أردت به ولأضلن به أكثر ممن تبعه.
فلما بلغ عيسى ثلاثين سنة، وبعثه الله رسولاً إلى بني إسرائيل، مصدقاً لما بين يديه من التوراة ومبشراً برسولٍ يأتي من بعده اسمه أحمد، واتخذ الآيات والعجائب، من إحياء الموتى وخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص. لقيه إبليس خالياً عند عقبة بيت المقدس، فقال الخبيث في نفسه: أنتهزن اليوم فرصتي من عيسى، فقال له إبليس: أنت عيسى بن مريم؟ قال نعم، قال: أنت الذي تكونت من غير أبٍ؟ إنك لعظيم الخطر! قال: بل العظمة للذي كونني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتشفي المريض؟ قال: بل العظمة للذي بإذنه أشفيهم، وإذا شاء أمرضني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي يحي الموتى؟ إنك لعظيم الخطر! قال: بل العظمة للذي بإذنه احييهم، ولا بد أن سوف يميتني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي بلغ من عظمتك أنك تمشي على الماء؟ قال: بل العظمة للذي بإذنه مشيت، وإذا شاء أغرقني؛ قال: أنت عيسى بن مريم الذي يبلغ من عظمتك أنك تعلو السماوات فتدبر فيها الأمر، ما أعرف لله نداً غيرك ولا مثلاً إلا أنت! فارتعد عيسى من الفرق، فخر مغشياً عليه ودعا الله على إبليس دعوةً، فخرج يتدأدأ، ما يملك من نفسه شيئاً حتى بلغ الخافق الأقصى، فنهض بالقوة التي جعلت فيه فسد على عيسى العقبة من قبل أن يزول عيسى من مكانه، فقال له: ألم أقل لك إنك إله عظيم وليس لله شبه غيرك، ولكنك لا تعرف نفسك، فهلم