وفي حديثٍ آخر بمعناه عن بشر بن الحارث: فبأي يدٍ لي عندك حتى فعلت بي هذا؟ ثم بكى حتى رحمته فقلت له: يا أبا علي! ما هذا البكاء؟ فقال لي: يا أبا نصر، بلغني أن الصراط مسيره خمسة عشر ألف عام خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف نزول، وخمسة آلاف مستوى، أدق من الشعر وأحد من السيف على متن جهنم، لا يجوزها إلا كل ضامرٍ مهزولٍ من خشية الله. قال: فبلغني في بعض الروايات أن إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ذكروا أهل الجنة: هل بقي أحد على الصراط بعد خمسة وعشرين ألف عام؟ فقال: بقي رجلٌ يحبو، قبلغ ذلك الحسن البصري فقال: يا ليتني أنا ذلك الرجل. فأنا يا أبا نصر لا أهدأ من البكاء أبداً.
قال بشر بن الحراث: كنت بمكة مع الفضيل بن عياض، فجلس معنا إلى نصف الليل، ثم قام يطوف إلى الصبح فقلت: يا أبا علي! ألا تنام؟ قال: ويحك! وهل أحدٌ سمع بذكر النار تطيب نفسه أن ينام؟! قال إسحاق بن إبراهيم: ما رأيت أحداً كان أخوف على نفسه ولا أرجى للناس من الفضيل! كانت قرائته حزينة شهية بطيئة مترسلة، كأنه يخاطب إنساناً، وكان إذا مر بآيةٍ فيها ذكر الجنة تردد فيها وسأل، وكانت صلاته بالليل أكثر ذلك قاعداً يلقى له حصير في مسجده، فيصلي من أول الليل ساعة، ثم تغلبه عينه فيلقي نفسه على الحصير فينام قليلاً ثم يقوم، فإذا غلبه ألنوم نام، ثم يقوم هكذا حتى يصبح، وكان دأبه إذا نعس أن ينام. ويقال: أشد العبادة ما تكون هكذا. وكان صحيح الحديث، صدوق الللسان، شديد الهيبة للحديث إذا حدث؛ وكان يثقل عليه الحديث جداً، ربما قال لي: لو أنك طلبت مني الدراهم كان أحب إلي من أن تطلب مني الأحاديث. وسمعته يقول: لو طلبت مني الدنانير كان أيسر علي من أن تطلب مني الحديث، فقلت له: لو حدثتني أحاديث فرائد ليست عندي كان أحب إلي من