إليه، فعقولهم صحيحة، وقلوبهم ثابتة، وأرواحهم بالملكوت الأعلى معلقة. ثم ولى وأنشأ يقول: من الطويل
فهام ولي الله في القفر سائحاً ... وحطت على سير القدوم رواحله
فعاد لخيرٍ قد جرى في ضميره ... تذوب به أعضاؤه ومفاصله
قال الفضيل: لقد بقيت عشرة أيامٍ لم أطعم طعاماً ولم أشرب شراباً وجداً لكلامه.
قال عبيد الله بن عمر: دخلت أنا ويحيى بن سليم إلى الفضيل نعوده، فقال الفضيل وجعل يضرب بيده على رأسه: يا فضيل، خلقك وأفرغ علسك نعمه ظاهرة وباطنة، وحرسك بعينه، وصرف وجوه الناس إليك وكنت تشتغل عنه! من أنت وما أنت؟ ثم شهق شهقة وسقط، وغطي بثوبه، وجعل ينتفض وهو لا يعقل، وتركناه.
وقال الفضيل بن عياض ليلةٌ: يا رب! أجعتني وأجعت عيالي، وأعريتني وأعريت عيالي، ولي ثلاثة أيامٍ ما أكلت ولا أكل عيالي، ولي ثلاث ليال ما استصبحت، فبما بلغت عندك حتى تفعل بي هذا؟ وإنما تفعل هذا يا رب بأوليائك، أفتراني أنا منهم؟ إلهي! إن فعلت بي مثل هذا يوماً آخر علمت أني منك على بال. فلما كان اليوم الرابع إذا داق يدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال: أنا رسول ابن المبارك، وإذا معه صرة دنانير وكتاب يذكر فيه أنه لم يحج هذه السنة، وقد وجهت بكذا وكذا. قال: فجعل فضيل يبكي ويقول: قد علمت أني أشقى من ذلك أن أكون عند الله بمنزلة أوليائه.
قال الفضيل بن عياض: إن الله يزوي الدنيا عن وليه ويمررها عليه مرة بالعري ومرة بالجوع ومرة بالحاجة، كما تفعل الوالدة الشفيقة بولدها مرة صبراً ومرة حضضاً، وإنما تريد بذلك ما هو خير له.