قال قيس بن النعمان: خرجت يوماً إلى بعض مقابر المدينة فإذا بصبي عند قبرٍ يبكي بكاءً شديداً، وإن وجهه ليلقي شعاعاً من نور، فقلت: أيها الصبي ما الذي عقلت له من الحزن حتى أفردك بالخلوة في مجالب الموتى والبكاء على أهل البلاء وأنت بغو الحداثة مشغولٌ عن اختلاف الأزمان وحنين الأحزان؟ فرفع رأسه وطأطأه وأطرق ساعةً لا يحير جواباً ثم قال: من البسيط
إن الصبي صبي العقل لا صغرٌ ... أزرى بذي العقل فينا لا ولا كبر
ثم قال لي: يا هذا خلي الذرع من الفكر، سليم الأحشاء من الحرقة، أمنت تقارب الأجل بطول الأمل إن الذي أفردني بالخلوة في مجالب أهل البلى تذكر قول الله عز وجل " فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون " فقلت: بأبي أنت، من أنت؟ فإني لأسمع كلاماً حسناً، فقال: إن من شقاوة أهل البلى قلة معرفتهم بأولاد الأنبياء، أن محمد بن علي بن الحسين بن علي وهذا قبر أبي فأي أنسٍ آنس من قربه وأي وحشةٍ تكون معه؛ ثم أنشأ يقول: من الكامل
ما غاض دمعي عند نازلةٍ ... إلا جعلتك للبكا سببا
إني أجل ثرىً حللت به ... من أن أرى بسواك مكتئبا
فإذا ذكرتك سامحتك به ... مني الدموع ففاض فانسكبا
قال قيس: فانصرفت وما تركت زيارة القبور مذ ذاك.
قال المدائني:
بينا محمد بن علي في فناء الكعبة أتاه أعرابي فقال له: هل رأيت الله حيث عبدته؟ فأطرق وأطرق من كان حوله، ثم رفع رأسه إليه فقال: ما كنت لأعبد شيئاً لم أره؛ فقال: وكيف رأيته؟ قال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروفٌ بالآيات منعوثٌ بالعلامات،