قال سالم كاتب هشام بن عبد الملك: خرج علينا هشام يوماً، هادلاً عنقه، مرخياً عنان دابته، مسترخية ثيابه عليه، فسار قليلاً، ثم إنه انتبه، فجذب عنان برذونه، وسوى عليه ثيابه ثم قال للربيع - وكان على حرسه -: ادع لي الأبرش بن الوليد، فأقبل عليه الأبرش، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت اليوم منك شيئاً، قال: وما هو؟ فأخبره بحاله التي خرج عليهم فيها، قال: ويحك يا أبرش! كيف لا أكون بذلك، وزعم أهل العلم بالنجوم أني أموت إلى ثلاثة وثلاثين يوماً من يومي هذا؟ فكتبت: ذكر أمير المؤمنين أنه مسافر إلى ثلاثة وثلاثين يوماً من يومي هذا وأدرجت الكتاب، وختمته. فلما كان في الليلة التي صبيحتها ثلاثة وثلاثون يوماً أتاني خادم، فقال: أدرك أمير المؤمنين، وائت بالدواء معك - وكان دواء الذبحة، يكون معه - فذهبت بالدواء إليه، فجعل يتغرغر به، وما يسكن عنه ما يجد، حتى مضى من الليل شيء، ثم قال: انصرف، ودع الدواء عندي، فقد وجدت بعض الراحة، فانصرفت إلى منزلي، فلم أنم حتى سمعت الصراخ عليه.
قال هشام يوماً، وهو يسير في موكبه: يا لك دنيا! ما أحسنك! لولا أنك ميراث لآخرك، وآخرك كأولك. فلما حضرته الوفاة نظر إلى ولده يبكون حوله، فقال: جاد لكم هشام بالدنيا، وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم عليه ما كسب، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له!
كان نقش خاتم هشام: الحكم للحكم الحكيم. حبس هشام بن عبد الملك عياض بن مسلم كاتب الوليد بن يزيد، وضربه، وألبسه المسوح. فلم يزل محبوساً حتى مات هشام. فلما ثقل هشام وصار في حد لا يرجى لمن كان مثله في الحياة رهقته غشية، وظنوا أنه مات، فأرسل عياض بن مسلم إلى الخزان أن احتفظوا بما في أيديكم، ولا يصلن أحد إلى شيء، وأفاق هشام من غشيته، فطلبوا من