أتخوف أن يطلع الله عليه في سخائه فيقبله، ثم ولى وهو يقول: لولا أنك يحيى لم أخبرك.
كان عيسى بن مريم أكثر من يحيى بسنتين. فبينا يحيى جالس إذ سمع زجلاً، فقال يحيى: يا روح الله، ما هذا؟ فقال عيسى: إبليس، فقال يحيى: يا روح الله، أرنيه، فقال عيسى: وما حاجتك إليه؟ هو أكذب البرية وأسحر البرية، وأخبث البرية، وأفسق البرية، قال: يا روح الله، أرنيه، فقال عيسى: يا إبليس، تبد له، فتبدى له إبليس، فإذا عليه برنس فيه أباريق من رأسه إلى قدمه، فقال له يحيى: ما هذه الأباريق؟ قال: هي اللذات التي أفتن بها الناس، قال يحيى: فأنشدك بالذي جعل عليك اللعنة إلى يوم الدين، هل أصبتني بشيء منها؟ فقال إبليس: نعم هذه، وأشار بأصبعه إلى شيء فيها عند كعبه، فقال يحيى: وما هي؟ فقال إبليس: إنك رجل تصوم، فأحبب إليك الطعام، لتنهله، فتثقل عن الصلاة، قال يحيى: أما والذي جعل عليك اللعنة إلى يوم الدين لا آكل ما عملته أيدي بني آدم حتى ألقى الله، وكان يأكل من نبت الأرض.
قال وهب بن الورد: تبدى إبليس ليحيى بن زكريا فقال: إني أريد أن أنصحك، فقال: كذبت، أنت لا تنصحني، ولكن أخبرني عن بني آدم قال: هم عندنا على ثلاثة أصناف، أما صنف منهم فهم أشد الأصناف علينا، نقبل عليه حتى نصيبه ونستمكن منه، ثم يفزع إلى الاستغفار والتوبة فيفسد علينا كل شيء أدركنا منه، ثم نعود له فيعود، فلا نحن نأيس منه، ولا نحن ندرك منه حاجتنا، فنحن من ذلك في عناء، وأما الصنف الآخر فهم في أيدينا بمنزلة الكرة في أيدي صبيانكم، نتلقفهم كيف شئنا، قد كفونا أنفسهم، وأما الصنف الآخر فهم مثلك معصومون لا نقدر معهم على شيء. قال يحيى: هل قدرت مني على شيء أبداً؟ قال: لا، إلا مرة واحدة، فإنك قدمت طعاماً تأكله فلم أزل أشهيه إليك حتى أكلت منه أكثر مما تريد، فنمت تلك الليلة، فلم تقم إلى الصلاة كما كنت تقوم إليها،