للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: يا راهب، فأيما العقل؟ قال: أوله المعرفة، وفرعه العلم، وثمرته السنة. قلت: يا راهب، متى يجد العبد حلاوة الإيمان والأنس بالله؟ قال: إذا صفا الود، وجادت المعاملة. قلت: يا راهب، متى يصفو الود؟ قال: إذا اجتمعت الهموم فصارت في الطاعة. قلت: يا راهب، متى تخلص المعاملة؟ قال: إذا اجتمعت الهموم فصارت واحدة.

قلت: يا راهب، عظني وأوجز. قال: لا يراك الله حيث يكره. قلت: زدني من الشرح لأفهم. قال: كل حلالاً،، وارقد حيث شئت. قلت: يا راهب، لقد تحليت بالوحدة! قال: يا فتى، لو ذقت طعم الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك، الوحدة رأس العبادة. ومؤنسها الفكرة. قلت: يا راهب، فما أشد ما يصيبك في صومعتك من هذه الوحدة؟ قال: يا فتى، ليس في الوحدة شدة. الوحدة أنس المريدين قلت: يا راهب، ما أشد ذلك عليك؟ قال: تواتر الرياح العواصف في الليل الشاتي. قلت: تخاف أن تسقط فتموت؟ فتبسم تبسماً لم يفتح فاه ولكن أشرق وجهه وقال: يا فتى هل العيش إلا في السقوط، وما أشبهه من أسباب الموت! قلت: فلم يشتد ذلك عليك إن كان ذلك؟ قال: يا فتى، أما والله، إذا اشتدت علي الريح وعصفت ذكرت عند ذلك عصوف الخلق في الموقف مقبلين ومدبرين لا يدرون ما يراد بهم، حتى يحكم الله بين عباده، وهو خير الحاكمين. فصاح صيحة أفزعتني من شدتها: يا طول موقفاه! قلت: يا راهب بم يقطع الطريق إلى الآخرة؟ قال: بالسهر الدائم، والظمأ في الهواجر. قلت: يا راهب فأين طريق الراحة؟ قال: في خلاف الهوى. قلت: يا راهب، متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة. قلت: يا راهب، لقد تخليت من الدنيا، وتعلقت في هذه الصومعة؟ قال: يا فتى، إنه من مشى على الأرض عثر، ففرت فرار الأكياس من فخ الدنيا، وخفت اللصوص على رحلي، فتعلقت في هذه الصومعة، وتحصنت بمن في السماء من فتنة من في الأرض، لأنهم سراقون للعقول، فتخوفت أن يسرقوا عقلي، وذلك أن القلب إذا صافى صديقه ضاقت به الأرض، وإذا أنا تفكرت في الدنيا تفكرت في الآخرة وقرب الأجل، فأحببت الرحيل إلى رب لم يزل. قلت: يا راهب، فمن أين تأكل؟ قال: من زرعٍ لم أتول بذاره، من بيدر اللطيف الخبير، ثم قال: يا فتى، إن الذي خلق الرحا هو يأتيها بالطحين، ثم أشار بيده إلى رحا ضرسه. قلت: يا راهب،

<<  <  ج: ص:  >  >>