للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كيف حالك في هذه الدنيا؟ قال: كيف حال من يريد سفراً بعيداً بلا أهبة ولا زاد، ويسكن قبراً بلا مؤنس، ويقف بين يدي حكم عدل؟.

ثم أرخى عينيه فبكى. قلت: يا راهب، ما يبكيك؟ قال: يا بني حقاً أقول لك، ذكرت يوماً مضى من أجلي لم يحسن فيه عملي، أبكاني قلة الزاد وبعد المعاد، وعقبة هبوط إلى جنةٍ أو إلى نارٍ قلت: يا راهب فلو تحولت من هذه الصومعة وخالطتنا، فإن عندنا رهباناً يخالطونا ويعاشرونا. قال: هيهات، يا فتى، كم من متعبدٍ لله بلسانه معانه له بقلبه، يقاد إلى عذاب السعير، ذلك زاهد في الظاهر، راغب في الباطن، حسن القول، خبيث المعاملة، مشارك لأبناء الدنيا لا أو يفر من جوار إبليس. قلت: أستغفر الله قال: يا فتى، سرعة اللسان بالاستغفار من غير بلوغ توبة الكذابين، ولو علم اللسان مما يستغفر الله لجف في الحنك. يا فتى، إن الدنيا منذ ساكنها الموت لم تقر بها عين كلما تزوجت الدنيا بزوج طلقها الموت، فالدنيا من الموت طالقة لم تقض عدتها بعد فمثلها مثل الحية لينٌ مسها والسم في جوفها، يحذرها رجال ذوو عقول، ويهوي إليها الصبيان لقلة عقولهم وتضرعهم بمرارة عيشهم وكدر صفوها. يا فتى، كم من طالب للدناي لا ينال حاجته، ولم يبلغ أمله، ولم يدركها، ومدرك لها إدراكاً فيه مرارة عيشها وكدر صفوها.

واعلم يا فتى أن شدة الحساب ومعاينة الأهوال مع الحمل الثقيل سيثقل اليوم على المسرفين بما عملوا ومرحوا في الأرض بغير ما أمروا. يا فتى، اجتناب المحارم رأس العبادة وسيعلم المتقون بما صبروا على سجع الطريق والظمأ في الهواجر والقيام على الأقدام في ظلم الدجى وإجاعة الأكباد وعري الأجساد، وذلك أن الله عدل في قضائه سابق في مقاله، لا يضيع أجر المحسين قلت: يا راهب، إني لأريد لنفسي شيئاً من المطعم والمشرب فلا يكفيني حتى تتوق نفسي إلى أكثر من ذلك. قال: يا فتى، إن نواصي العباد في يد الله عز وجل وقبضته فلا يجوزون من ذلك إلى غيره، قد قسم أرزاقهم وفرغ من آجالهم، تدبير

<<  <  ج: ص:  >  >>