الله عز وجل له في مطعمه ومشربه أحرى أن لا يجريه تدبيره لنفسه. قلت: اوه، ضربت فأوجعت وشددت فأوثقت. قال: بل أطعمت فأشبعت، ووعظت فنفعت. قلت: يا راهب، بم يستعان على الزهد في الدنيا؟ قال: بتقصير الأمل، وذكر الموت، والمداومة على العمل. قلت: يا راهب، فمتى ترحل الدنيا عن القلب، وتسكن الحكمة الصدر؟
فصاح صيحة خر مغشياً عليه، ومكث ساعة كذلك، ثم أفاق من غشيته فقال لي: كيف قلت؟ قال: فأعدت عليه القول. فقال: لا والله، لا ترحل الدنيا عن القلب وأنت نمكب على القراريط والفلوس تتلذذ بالنظر إلى كثرتها، وتستعين بكسب الحرام على جمعها، وأنت تحب النظر إلى هؤلاء وأشار بيده إلى الخلائق، ثم قال: لا أوترد موارد السباع الضارية المنقطعة عن الخلائق في الكهوف وأطراف الجبال الشواهق الصم الصلاب. يقول عيسى بن مريم: لا ينال العبد منال الصديقين ودرجة المقربين، ويعرف في الملكوت الأعلى حتى يترك امرأته أرملة عن غير طلاق، وصبيانه يتامى من غير موت، ويأوي إلى مرابض الكلاب، فعند ذلك يعرف في الملكوت الأعلى وينال الدرجة الخامسة من درجات العارفين. وأما قولك متى تسكن الحكمة الصدر؟ حتى يراك الله وقد أعتقت رقبتك من أن تكون مملوكاً لامرأتك وأجيراً لولدك. قلت: يا راهب، فما أول قيادة القلب إلى الزهد في الدنيا والرضا بالقسم؟ قال: بإماتة الحرص وبذبح حنجرة المطعم، فإن كثرة المطعم تميت القلب كما يموت البدن. قلت: يا راهب، فأكون معك وأقيم عليك؟! قال: وما أصنع بك؟ وأي أنس لي فيك؟ ومعي عاطي الأرزاق، وقابض الأرواح يسوق إلي رزقي في وقته، ولم يكلفني حمله ولا يقدر على ذلك أحد غيره. ثم قال لي: يا فتى، طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد لم يره، كما لا يجوز فيكم الشريف كذا لا يجوز كلامكم إلا بنور الإخلاص، كم من صلاة قد زخرفتموها بآية من كتاب الله كما تزخرف الفضة البيضاء بالسوداء للناظرين إليها حتى ينظروا بنور الإخلاص لا فساد لها، عند إصلاح الضمائر تكفير الكبائر ثم قال: يا فتى، إن العبد إذا أضمر على ترك الآثام أتاه القنوع. ثم قال: يا فتى، ربما استطربني الفرح من مجلسي إلى الصلاة، ولربما رأيت القلب