فكأني أنظر إلى عمر وقد وثب مباعداً بين خطاه حتى وقف على القبر، فصلّى عليه، ثم انضجع فاعتنقه، وبكى، حتى سمعنا لبكائه شحيجاً، ثم قال: كره الله له منتّكم، وسيق به، واختار له ما عنده إن شاء الله. ثم أمر بأهله فجعلوا معه؛ فلم يزل ينفق عليهم حتى قبض.
عن زيد بن أسلم، عن أبيه أسلم، قال: خرجنا مع عمر بن الخطّاب إلى حرّة واقم، حتى إذا كنّا بصرار إذا نار، فقال: ياأسلم، إنّي لأرى ها هنا ركباً قصّر بهم اللّيل والبرد، انطلق بنا. فخرجنا نهرول حتى دنوها منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار، وقدور منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون؛ فقال عمر: السّلام عليكم يا أصحاب الضّوء وكره أن يقول: يا أصحاب النّار فقالت: وعليك السّلام. فقال: أدنو؟ فقالت؛ ادن بخير أو دع. قال: فدنا، وقال: ما لكم؟ قالت: قصّر بنا اللّيل والبرد. قال: وما بال هؤلاء الصبّية يتضاغون؟ قال: الجوع. قال: فأيّ شيء في هذه القدور؟ قالت: ماء أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر. قال: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولّى أمرنا ثم يغفل عنّا! قال: فأقبل عليّ، فقال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدّقيق، فأخرج عدلاً من دقيق، وكبّة شحم؛ فقال: احمله عليّ. فقلت: أنا أحمله عنك. فقال: أنت تحمل وزري يوم القيامة، لا أمّ لك؟ فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدّقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذرّي عليّ وأنا أحرك لك، وجعل ينفخ تحت القدر ثم يمرثها؛ فقال: ابغي شيئاً؛ فأتته بصحفة، فأفرغها فيها، ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم. فلم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك، وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، كنت أولى بهذا الأمر من المؤمنين. فيقول: قولي خيراً، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله.