إليها صاعدة، وينظرون إلى ظلها حتى توارت، فاستغنى كل فقير أكل منها حتى مات، وبرأ كل مبتلى يومئذٍ فلم يزل صحيحاً غنياً حتى مات، وندم الحواريون وندم سائر الناس ندامةً شابت حواجبهم وأشفار أعينهم، فكانت إذا نزلت بعد ذلك أقبلوا إليها من كل مكان يسعون، يزاحم بعضهم بعضاً، الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والصغار والكبار، وكل صغير ضعيف ومريض، يركب بعضهم بعضاً، حتى جعلها عيسى نوائب فيما بينهم، ثم كانت تنزل غباً، تنزل يوماً ولا تنزل يوماً، كناقة ثمود، ترعى يوماً وترد يوماً فلبثوا بذلك أربعين صباحاً، فلا تزال موضوعة يؤكل منها، فإذا فاء الفيء ارتفعت صاعدةُ في السماء؛ ثم أوحى الله إلى عيسى: أن اجعل مائدتي ورزقي لليتامى والزمنى والفقراء دون الأغنياء، فتعاظم ذلك عند الأغنياء، وأذاعوا القبيح وارتابوا وشكوا فيها، ووقعت الفتنة في قلوب المرتابين حتى قال قائلهم: يا روح الله وكلمته! إن المائدة بحق أنها تنزل من عند ربنا؟ فقال: عيسى ويلك هلطتم! العذاب نازلٌ بكم إلا أن يعفو الله ويرحمكم.
فأوحى الله إلى عيسى أني آخذهم بالشرط الذي اشترطت، إني معذب منهم من كفر بعد نزولها بعذاب " لا أعذبه أحداً من العالمين " فقال عيسى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وخبرهم بنزول العذاب عليهم، فمسخ الله منهم ثلاثةً وثلاثين رجلاً خنازير، وأصبحوا يأكلون العذرة في الحشوش ويتبعون الزبل في الطرق، وكانوا باتوا أول الليل على فرشهم مع نسائهم آمنين في دورهم، في أحسن صورةٍ وأوسع رزق فأصبحوا خنازير، وأصبح الناس - من بقي - خائفين من عقوبة الله، وعيسى يبكي ويتضرع وأهلوهم يبكون معه عليهم. وجاءت الخنازير تسعى إلى عيسى حين أبصرته، فطفقوا وعيسى يدعوهم: يا فلان يا فلان، فيقول برأسه: نعم، فيقول: ألم أنذركم عقوبة الله؟ فيقولون برؤوسهم: أي نعم، وأحذركم وأخوفكم عذابه! وكأني كنت انظر إليكم في غير صوركم؛ وذلك قوله تعالى:" لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " وأنزل الله على