تجاف على البكاء ولا تزده ... فإني ما أراك صنعت شيا
قال المبرد: ما ذكرت هذه الأبيات إلا ترحمت عليه.
قال المازني للمبرد: بلغني أنك تنصرف من مجلسنا فتصير إلى المخيس، وإلى مواضع المجانين والمعالجين، فما معناك في ذلك؟ فقلت: إن لهم طرائف من الكلام؛ فقال: خبرني بأعجب ما رأيت من المجانين؛ فقلت: دخلت يوماً إلى مستقرهم فرأيت مراتبهم على قدر بليتهم، وإذا قومٌ قيامٌ قد شدت أيديهم إلى الحيطان بالسلاسل ونقبت من البيوت التي هم بها إلى غيرها مما يجاورها، لأن علاج أمثالهم أن يقوموا بالليل والنهار، لا يقعدون ولا يضطجعون، ومنهم من يجلب على رأسه وتدهن أوراده، ومنهم من ينهل ويعل بالدواء حسبما يحتاجون إليه، ورحت يوماً مع ابن أبي خميصة، وكان المتقلد للنفقة عليهم ولتفقد أحوالهم، فنظروا إليه وانا معه، فأمسكوا عما كانوا عليه، ومررت على شيخٍ منهم تلوح صلعته وتبرق للدهن جبهته، وهو جالسٌ على حصيرٍ نظيفٍ، ووجهه إلى القبلة كأنه يريد الصلاة، فجاوزته إلى غيره، فناداني: سبحان الله، أين السلام؟ من المجنون ترى أنا أم أنت؟ فاستحييت منه وقلت: السلام عليكم؛ فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا حسن الرد عليك، على أنا نصرف سوء أدبك إلى أحسن جهاته من العذر، لأنه كان يقال: إن للداخل على القوم دهشةً، اجلس أعزك الله عندنا، وأومى إلى موضعٍ من حصيرة ينفضه، كأنه يوسع لي، فعزمت على الدنو منه، فناداني ابن أبي خميصة: إياك، إياك، فأحجمت عن ذلك، ووقفت ناحيةً أستجلب مخاطبته وأرصد الفائدة منه، ثم قال لي وقد رأى محبرةً معي: يا هذا، أرى معك آلة رجلين أرجو أن لا تكون أحدهام؛ أتجالس أصحاب الحديث الأغثاء أم الأدباء من أصحاب النحو والشعر؟ قلت: الأدباء؛ قال: أتعرف أبا عثمان المازني؟ قلت: نعم، معرفة ثابتة؛ قال: أتعرف الذي يقول فيه: من مجزوء الرمل