يطوفون بينها وبين حميم آن " فجعل يجول في الدار، ويصرخ، ويبكي حتى غشي عليه، فقالت للفتى أمه: يا بني، ما أردت بهذا من أبيك؟ قال: إنما أردت أن أهون عليه، لم أرد أن أزيده حتى يقتل نفسه.
كان يزيد الرقاشي يقول في كلامه: إلى متى تقول: غداً أفعل كذا، وبعد غد أفعل كذا وإذا أفطرت فعلت كذا، وإذا قدمت من سفري فعلت كذا؟ أغفلت سفرك البعيد، ونسيت ملك الموت، أما علمت أن دون غد ليلة تخترم فيها أنفس كثيرة، أما علمت أن ملك الموت غير منتظر بك أملك الطويل، أما علمت أن الموت غاية كل حي؟ ثم يبكي حتى يبل عمامته، ثم يقول: أما رأيت صريعاً بين أحبابه لا يقدر على رد جوابهم، بعد أن كان جدلاً، خصماً، سمحاً، كريماً عليهم؟ أيها المغتر بشبابه، أيها المغتر بطول عمره.
كان يزيد الرقاشي يقرأ هذه الآية على أصحابه: " كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق، وظن أنه الفراق " قال: تقول الملائكة بعضهم لبعض: من أي باب يرتقى بعمله فيرتقى فيه بروحه، ويقول أهله هذا والله حين فراقه، فيبكي إليهم ويبكون إليه، ولا يستطيع أن يحير إليهم جواباً. ثم بكى يزيد بكاءً شديداً.
قال أبو إسحاق: دخلت على يزيد الرقاشي وقت الظهيرة في بيته، وهو يتمرغ على الرمل مثل الجرادة، ويقول: ويحك يا يزيد! من يصوم عنك؟ من يصلي عنك؟ من يترضى لك ربك من بعدك؟ ثم التفت إلي فقال: يا معشر الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ من الموت موعده، والقبر بيته، والثرى فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، ثم لا يعرف منقلبه: إلى الجنة أو إلى النار، ثم يبكي، حتى تسقط أشفار عينيه.