للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولكنْ استحسنَ علماؤُنا (١) بقولهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (٢)، والمرادُ منهُ: شهودُ بعضِ الشهرِ؛ لِأَنهُ لو كانَ السببُ شُهودَ جميعِ الشهرِ لِوُقوعِ الصَّوْم في شَّوالَ، فصارَ بهذا النصِّ شهودُ جُزْءٍ مِنَ الشهرِ سببًا لِوُجوبِ صَوْمِ جميعِ الشهرِ، فصارَ تقديُر الآيةِ فَمْن شَهِدَ مِنكمْ بعضَ الشهرِ فليصُم الشهرَ كُلُّهُ، ولا يُقالُ: لو كانَ المرادُ بهِ بعضُ الشهرِ، فينبغي أنْ ينصرفَ الخِطابُ بالصَّوْم إلى صومِ ذلكَ البعضِ الذي شهدَهُ لأَنَّا نقولُ: إنَّ الكنايةَ تنصَرفُ إلى أقربِ الأسماءِ الظاهَرةِ، والاسمُ الظاهُر هاهنا الشهرُ، وأمَّا البعضُ فليسَ بظاهرٍ، بَلْ هو مُضَمُرُ لحِاجةٍ ماسَّةٍ إلى الإضمارِ، وهذا بخلافِ ما إذا استوعَبَ الجنونُ الشهَر كُلُّهُ؛ لِأَنهُ المرادُ منِ قولهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (٣) مَنْ كان أهلًا للأَمْرِ بالصَّوْم، ومتى استوعبَ الجُنونُ الشهَر كُلُّهُ لم يكنْ أهلًا للأمْرِ بالصَّوْم، ولِأَنَّ الجُنونَ عَارِضٌ أَعْجَزَهُ عن صَومِ بعضِ الشهرِ مع بقاءِ أَثَر الخِطْابِ فيلزمُهُ القضاءُ كالإغماءِ، فأمّا إذا استوعَبَ الجنونُ الشهرَ كُلُّهُ، فإنَّما أسقطْنا القضاءَ لا لِانْعِدَامِ أثرِ الخِطْابِ، بلْ لِدَفْعِ الحرجِ والمشقةِ، والحرجُ عذرُ مُسْقِطٌ للقضاءِ كالحيضِ في حقِّ الصَّلَاةِ،

وحَاصِلُ/ الكلامِ (٤): أنَّ الوُجوَب في الذِّمةِ لا ينعدُم ذلك بسببِ الصَبأ، ولا بسببِ الجُنونِ، والإغماءِ إِلاَّ أنَّ الصَبَا يّطولُ عِادة، فيكونُ مُسقطًا للقضاءِ دَفعًا للحرجِ والإغماءُ لا يطولُ عادةً فلا يكونُ مُسقِطًا للقضاءِ، والجنونَ قد يطولُ، وقد يقصُر فإذا طالَ التحقَ بما يطولُ عادةً، وإذا قَصُرَ التحقَ بما يَقْصُرُ عادةً، ثُمَّ فَرْقٌ بينَ الطويلِ والقصيرِ في الصَّوْم أنْ يَستوعبَ الشهرَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الشهرَ في حُكْمِ الأجلِ، وفي الصَّلَاةِ أنّ يزيدَ على يومِ، وليلةٍ لِيُدخِلَ الفوائِتَ في حدِّ التَّكرارِ هذا كُلُّهُ مِنَ «المَبْسُوط» (٥)، و «الفَوَائِد الظَّهِيرِيَّة» (٦). والأهليةُ بالذِّمةِ، والذِّمةُ عبارةٌ عن كونهِ أهلًا للإيجابِ، والاستحبابِ، وهو بالآدميةِ، وفي الوجوبِ فائدةُ هذا لِرَدِّ شُبهةٍ تردُ على قولهِ والأهليةُ بالذِّمةِ بأنْ يُقالَ: لو كانَ الوجوبُ دِائرًا مع الذِّمة ينبغي أنْ يَجِبُ على الصبيِّ أيضًا، فقالَ: الوجوبُ يتلو الفائِدَةَ وهي أنْ يطلُبَ منهُ الأداءَ على وجهٍ لا يخرجُ، والصبأُ ممتدٌ فيخرجُ هو في الإيجابِ عليهِ، وأمّا هاهنا الأهليةُ بالذِّمةِ موَجودةٌ، وليسَ في الإيجابِ كثيرُ حَرَج؛ لِأَنَّ الكلامَ في عَدَمِ الاستغراقِ، وليسَ فيهِ حَرَجٌ فكانَ الإيجابُ مُعتبرًا فلا فائِدَةَ؛ لأنهُ لو وَجَبَ يسقطُ بسببِ الحَرجِ بعدَ الوُجوبِ فلا فائدِةَ في الوُجوبِ حينئذٍ، قِيلَ: وهذا ظَاهِرُ الروايةِ، أي: عَدَمُ الفْرقِ، ثُمَّ المُرادُ مِن الجنُونِ الأصلي هو أنْ يكونَ متُصلًا بالصَبأ بأنْ بلغ مجَنونًا، ومِنَ الجنُون العارِضِي هو أنْ يبلغَ مُفيقًا، ثُمَّ جُنَّ (٧).


(١) يُنْظَر: المَبْسُوط (٣/ ١٦٠)، العناية (٢/ ٣٧٢).
(٢) سورة البقرة الآية (١٨٥).
(٣) سورة البقرة الآية (١٨٥).
(٤) يُنْظَر: المَبْسُوط (٣/ ١٦٠)، بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١٠٤).
(٥) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٥٨، ١٥٩).
(٦) يُنْظَر: تَبْيِينُ الْحَقَائِق (١/ ٣٤٠).
(٧) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٣٦٩).